تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولئن سألتهم} يعني كفار مكة {من نزل من السماء ماء} يعني المطر، {فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله} يفعل ذلك {قل الحمد لله} بإقرارهم بذلك {بل أكثرهم لا يعقلون} بتوحيد ربهم، وهم مقرون بأن الله عز وجل خلق الأشياء كلها وحده...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك من نزل من السماء ماء، وهو المطر الذي ينزله الله من السحاب، "فأحْيا بِه الأرْضِ "يقول: فأحيا بالماء الذي نزل من السماء الأرض، وإحياؤها: إنباتُه النباتَ فيها "من بعدِ مَوْتها": من بعد جدوبها وقحوطها.
وقوله: "لَيَقُولُنّ اللّهُ" يقول: ليقولنّ الذي فعل ذلك الله الذي له عبادة كل شيء. وقوله: "قُلِ الحَمْدُ لِلّهِ" يقول: وإذا قالوا ذلك، فقل الحمد لله، "بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ" يقول: بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعقلون مالهم فيه النفع من أمر دينهم، وما فيه الضرّ، فهم لجهلهم يحسِبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون الله ينالون بها عند الله زُلْفة وقربة، ولا يعلمون أنهم بذلك هالكون مستوجبون الخلود في النار.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
كما عَلِموا أَنَّ حياةِ الأرضِ بعد موتها بالمطر من قِبَل الله، فليعلموا أَنَّ حياةَ النفوسِ بعد موتها -عند النّشْرِ والبعث- بقدرة الله. وكما علموا ذلك فليعلموا أَنَّ حياةَ الأوقات بعد نفرتها، وحياة القلوب بعد فترتها... بماء الرحمة بالله...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
استحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه ممن أقر بنحو ما أقروا به؛ ثم نفعه ذلك في توحيد الله ونفي الأنداد والشركاء عنه، ولم يكن إقراراً عاطلاً كإقرار المشركين؛ وعلى أنهم أقروا بما هو حجة عليهم حيث نسبوا النعمة إلى الله، وقد جعلوا العبادة للصنم.
{بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد. أو لا يعقلون ما تريد بقولك الحمد لله، ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم؟...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أمر تعالى نبيه بحمده على جهة التوبيخ لعقولهم...
يعني هذا سبب الرزق وموجد السبب موجد المسبب، فالرزق من الله.
{قل الحمد لله} وهو يحتمل وجوها؛
أحدها: أن يكون كلاما معترضا في أثناء كلام كأنه قال: فأحيا به الأرض من بعد موتها {بل أكثرهم لا يعقلون} فذكر في أثناء هذا الكلام {الحمد} لذكر النعمة.
الثاني: أن يكون المراد منه كلاما متصلا، وهو أنهم يعرفون بأن ذلك من الله ويعترفون ولا يعملون بما يعلمون، وأنت تعلم وتعمل، فكذلك المؤمنون بك، فقل الحمد لله، وأكثرهم لا يعقلون أن الحمد كله لله، فيحمدون غير الله على نعمة هي من الله.
الثالث: أن يكون المراد أنهم يقولون إنه من الله، ويقولون بإلهية غير الله، فيظهر تناقض كلامهم وتهافت مذهبهم، فقل الحمد لله على ظهور تناقضهم وأكثرهم لا يعقلون هذا التناقض أو فساد هذا التناقض.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {بل أكثرهم لا يعقلون} أي لا يتجدد لهم عقل، بعضهم مطلقاً لأنه مات كافراً حيث هم مقرون بمعنى الحمد من أنه الخالق لكل شيء بدءاً وإعادة ثم يفعلون ما ينافي ذلك فيشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه ولا يتوكلون في جميع الأمور براً وبحراً عليه ويوجهون العبادة خالصة إليه، فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يتبعه سائر الفروع، ومنهم من كان دون ذلك، فكان نفي العلم عنه مقيداً بالكمال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أعيد أسلوب السؤال والجواب ليتصل ربط الأدلة بعضها ببعض على قرب. فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم. وأدمج في الاستدلال عليهم بانفراده تعالى بإِنزال المطر أن الله أحيا به الأرض بعد موتها وإن كان أكثر المشركين ينسبون المسببات إلى أسبابها العادية كما تبين في بحث الحقيقة والمجاز العقليين في قولهم: أنبت الربيع البقل، أنه حقيقة عقلية في كلام أهل الشرك لأنهم مع ذلك لا ينسبون الإنبات إلى اصنامهم، وقد اعترفوا بأن سبب الإنبات وهو المطر منزل من عند الله فيلزمهم أن الإنبات من الله على كل تقدير. وفي هذا الإدماج استدلال تقريبي لإِثبات البعث كما قال: {فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير} [الروم: 50] وقال: {ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون} [الروم: 19].
وقد أشار قوله {من بعد موتها} إلى موت الأرض، أي موت نباتها يكون بإمساك المطر عنها في فصول الجفاف أو في سنين الجدب لأنه قابله بكون إنزال المطر لإرادته إحياء الأرض بقوله {فأحيا به الأرض}، فلا جرم أن يكون موتها بتقدير الله للعلم بأن موت الأرض كان بعد حياة سبقت من نوع هذه الحياة، فصارت الآية دالة على أنه المتصرف بإحياء الأرض وإماتتها، ويعلم منه أن محيي الحيوان ومميته بطريقة لحن الخطاب. فانتظم من هذه الآيات المفتتحة بقوله {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض} [العنكبوت: 61] إلى هنا أصول صفات أفعال الله تعالى وهي: الخلق، والرزق، والإحياء، والإماتة، من أجل ذلك عقب بأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده بكلام يدل على تخصيصه بالحمد.
{قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَعْقِلُونَ} لما اتضحت الحجة على المشركين بأن الله منفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ولزم من ذلك أن ليس لأصنامهم شرك في هذه الأفعال التي هي اصول نظام ما على الأرض من الموجودات فكان ذلك موجباً لإِبطال شركهم بما لا يستطيعون إِنكاره ولا تأويله بعد أن قرعت أسماعهم دلائله وهم واجمون لا يبدون تكذيباً فلزم من ذلك صدقُ الرسول عليه الصلاة والسلام فيما دعاهم إليه، وكذبتهم فيما تطاولوا به عليه في أمر الله ورسوله بأن يحمده على أن نصرهُ بالحجة نصراً يؤذن بأنه سينصره بالقوة، وتلك نعمة عظيمة تستحق أن يحمد الله عليها إذ هو الذي لقنها رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابه وما كان يدري ما الكتاب ولا الإِيمان. فهذا الحمد المأمور به متعلِّقه محذوف تقديره: الحمد لله على ذلك، وهو الحجج المتقدمة، وليس خاصاً بحجة إنزال الماء من السماء، وكذلك شأن القيود الواردة بعد جعل متعددة أن ترجع إلى جميعها، وكذلك ترجع معها متعلِّقاتها -بكسر اللام- وقرينة المقام كنار على علَم، ألا ترى أن كل حجة من تلك الحجج تستأهل أن يحمد الله على إقامتها فلا تختص بالحمد حجة إنزال المطر فقد قال تعالى في سورة لقمان [25] {ولَئِن سألتَهُم مَن خَلَقَ السَّماوات والأرضَ ليقولُنَّ الله قُلْ الحمدُ لله بَلْ أكثَرهُم لا يَعْلَمون} فلذلك لا يجعل قوله {قل الحمد لله} اعتراضاً.
{بل أكثرهم لا يعقلون}...إنما أسند عدم العقل إلى أكثرهم دون جميعهم لأن من عقلائهم وأهل الفطن منهم من وضحت له تلك الحجج فمنهم من آمنوا، ومنهم من أصرّوا على الكفر عناداً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... ولكن المشكلة لديهم أنهم لا يحركون عقولهم في آفاق الوعي، بل يجمّدونها في مواقع غرائزهم وشهواتهم، ليكون الإحساس المادي هو ما يشغل اهتماماتهم، لا التفكير العقلاني الوجداني {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} لا بمعنى فقدان العقل الذي يملك قوّة التفكير، بل بمعنى فقدان استخدامه كقوّة متحركة تفكر وتحاكم وتناقش وتكتشف خفايا الأشياء، وتُرجع الأمور إلى مصادرها الحقيقية، وتحركها في اتجاه خطوطها البارزة التي تتجه إلى ما فيه مصلحة الإنسان وتطوّره في مدارج الرقيّ والتقدم والسلام.
ولما ثبت بهذا شمول علمه ، لزم تمام قدرته كما برهن عليه في طه ، فقال مشيراً إلى ذلك ذاكراً السبب القريب في الترزيق بعد ما ذكر البعيد ، فإن الاعتراف بأن هذا السبب منه يستلزم الاعتراف بأن المسبب أيضاً منه : { ولئن سألتهم من نزل } بحسب التدريج على حسب ما فعل في الترزيق ، ولما كان ربما ادعى مدع أنه استنبط ماء فأنزله من جبل ونحوه ، ذكر ما يختص به سبحانه سالماً عن دعوى المدعين فقال : { من السماء ماء } بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو { فأحيا } ولما كان أكثر الأرض يحيى بماء المطر من غير حاجة إلى سقي ، قدم الجار فقال { به الأرض } الغبراء ، وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات ، وإلى أنهم لا يعلمون إلا الجزئيات الموجودة المحسوسة ، ولا تنفذ عقولهم إلى الكليات المعقولة نفوذ أهل الإيمان ليعلموا أن ما أوجده سبحانه بالفعل في وقت فهو موجود إما بإيجاده إذا أراد ، فالأرض حية بإحيائه سبحانه بسبب المطر في جميع الزمن الذي هو بعد الموت بالقوة كما أنها حية في بعضها بالفعل فقال : { من بعد موتها } فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن بها شيء من ذلك ، وأكد لمثل ما تقدم من التنبيه على أن حالهم في إنكار البعث حال من أن ينكر أن يكون الله صانع ذلك ، لملازمة القدرة عليه القدرة على البعث بقوله : { ليقولن الله } وهو الذي الكمال كله ، فلزمهم توحيده .
فلما ثبت أنه الخالق بدءاً وإعادة كما يشاهد في كل زمان ، قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسوله صلى الله عليه وسلم : { قل } معجباً منهم في جمودهم حيث يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون : { الحمد } أي الإحاطة بأوصاف الكمال كلها { لله } الذي لا سمي له وليس لأحد غيره إحاطة بشيء من الأشياء ، فلزمهم الحجة بما أقروا به من إحاطته ، وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم عنه { بل أكثرهم لا يعقلون* } أي لا يتجدد لهم عقل ، بعضهم مطلقاً لأنه مات كافراً حيث هم مقرون بمعنى الحمد من أنه الخالق لكل شيء بدءاً وإعادة ثم يفعلون ما ينافي ذلك فيشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه ولا يتوكلون في جميع الأمور براً وبحراً عليه ويوجهون العبادة خالصة إليه ، فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به ، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يتبعه سائر الفروع ، ومنهم من كان دون ذلك ، فكان نفي العلم عنه مقيداً بالكمال .