الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{قَالَ أَفَرَءَيۡتُم مَّا كُنتُمۡ تَعۡبُدُونَ} (75)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: قال إبراهيم لقومه: أفرأيتم أيها القوم ما كنتم تعبدون من هذه الأصنام أنتم وآباؤكم الأقدمون، يعني بالأقدمين: الأقدمين من الذين كان إبراهيم يخاطبهم، وهم الأوّلون قبلهم ممن كان على مثل ما كان عليه الذين كلمهم إبراهيم من عبادة الأصنام، "فإنهم عدوّ لي إلا ربّ العالمين". يقول قائل: وكيف يوصف الخشب والحديد والنحاس بعداوة ابن آدم؟ فإن معنى ذلك: فإنهم عدوّ لي لو عبدتهم يوم القيامة، كما قال جلّ ثناؤه "واتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّا، كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّا"... ومعنى الكلام: أفرأيتم كلّ معبود لكم ولآبائكم، فإني منه بريء لا أعبده، إلا ربّ العالمين.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

قال بعضهم إنهم وآباءهم الذين عبدوا الأصنام من قبل عدو له {إلا رب العالمين} استثنى رب العالمين؛ يقول: هم عدو لي، وأنا بريء منهم إلا من يكون فيكم من يعبد رب العالمين؛ فيكون على الإضمار، أي فإنهم جميعا عدو لي إلا من عبد رب العالمين.

وقال بعضهم يقول: إن العابدين والمعبودين كلهم {عدو لي إلا رب العالمين} أي إلا المعبود بالحقيقة الذي يستحق العبادة، فإنه وليي. وقال بعضهم: ليس على الاستثناء، ولكن على الابتداء؛ كأنه قال: أنتم وآباؤكم الأقدمون عدو لي.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

فلما صرحوا لإبراهيم عليه السلام عن عدم نظرهم وأنه لا حجة لهم خاطبهم ببراءته من جميع ما عبد من دون الله وعداوته لذلك.

تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :

أي: إن كانت هذه الأصنام شيئا ولها تأثير، فَلْتَخْلُص إلي بالمساءة، فإني عدو لها لا أباليها ولا أفكر فيها. وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن نوح، عليه السلام: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس: 71] وقال هود، عليه السلام: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 54 -56]

وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم وقال: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: 81] وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26- 28] يعني: لا إله إلا الله.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما وصلوا إلى التقليد المحض الخالي عن أدنى نظر كما تفعل البهائم والطير في تبعها لأولها {قال} معرضاً عن جواب كلامهم بنقص، إشارة إلى أنه ساقط لا يرتضيه من شم رائحة الرجولية: {أفرأيتم} أي فتسبب عن قولكم هذا أني أقول لكم: أرأيتم، اي إن لم تكونوا رأيتموهم رؤية موجبة لتحقق أمرهم فانظروهم نظراً شافياً {ما كنتم} أي كوناً هو كالجبلة لكم {تعبدون} مواظبين على عبادتهم.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

وأمام ذلك التحجر لم يجد إبراهيم -على حلمه وأناته- إلا أن يهزهم بعنف، ويعلن عداوته للأصنام، وللعقيدة الفاسدة التي تسمح بعبادتها لمثل تلك الاعتبارات! (قال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ فإنهم عدو لي إلا رب العالمين).. وهكذا لم يمنعه أن أباه وأن قومه يعبدون ما يعبدون، أن يفارقهم بعقيدته، وأن يجاهر بعدائه لآلهتهم وعقيدتهم، هم وآباؤهم -وهم آباؤه- الأقدمون!

وكذلك يعلم القرآن المؤمنين أن لا مجاملة في العقيدة لوالد ولا لقوم؛ وأن الرابطة الأولى هي رابطة العقيدة، وأن القيمة الأولى هي قيمة الإيمان. وأن ما عداه تبع له يكون حيث يكون. واستثنى إبراهيم (رب العالمين) من عدائه لما يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين).. فقد يكون من آبائهم الأقدمين من عبد الله، قبل أن تفسد عقيدة القوم وتنحرف؛ وقد يكون من عبد الله ولكن أشرك معه آلهة أخرى مدعاة. فهو الاحتياط إذن في القول، والدقة الواعية في التعبير، الجديران بإبراهيم -عليه السلام- في مجال التحدث عن العقيدة وموضوعها الدقيق.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

جملة: {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} مفرّعة على جمل كلام القوم المتضمنة عبادتهم الأصنام وأنهم مقتدون في ذلك بآبائهم. فالفاء في {أفرأيتم} للتفريع وقدم عليها همزة الاستفهام اتّباعاً للاستعمال المعروف وهو صدارة أدوات الاستفهام. وفعل الرؤية قلبي. ومثل هذا التركيب يستعمل في التنبيه على ما يجب أن يعلم على إرادة التعجيب مما يُعلم من شأنه. ولذلك كثر إردافه بكلام يشير إلى شيء من عجائب أحوال مفعول الرؤية كقوله تعالى: {أفرأيتَ الذي تولّى وأعطى قليلاً} [النجم: 33 -34] الآية، ومنه تعقيب قوله هنا {أفرأيتم ما كنتم تعبدون} بقوله: {فإنهم عدو لي}.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

من الموقع العقيدي الملتزم بالإيمان بالله، كعقيدةٍ وعبادةٍ ومنهجٍ للحياة.. الذي يتنافى مع كل اتجاهٍ آخر، بحيث تتحول الساحة إلى صراعٍ مريرٍ بين الاتجاهين، لينسحب أحدهما لمصلحة الآخر، بكل الوسائل الممكنة، بالرفق تارةً، وبالعنف أخرى. ولذا فإن موقفي هو موقف العدوّ الذي يتحدى الأصنام ويرفضها ويعمل على تدميرها وإبعادها عن ذهنية الناس وحياتهم، حتى لا تترك أيّ تأثير على الفكر والممارسة معاً، من دون ملاحظةٍ لأية مسألةٍ عاطفيةٍ ذات صلة بالقرابة، كما تدرجون عليه في ربط الجانب العقيدي بالجانب العاطفي في التزامكم بعقائد الآباء من موقع الإخلاص لهم، فإن ذلك لا يربطني بشيء، ولهذا فإنني لا أشعر بمسألة النسب كحالةٍ عاطفية عندما تقف أمام مسألة العقيدة، ما يجعلني أتحدث عنهم بصفة أنهم آباؤكم، مع أنهم آبائي أيضاً. وعلى ضوء هذا، فإننا نستطيع استيحاء القاعدة في اعتبار التضاد في العقيدة أساساً للعداوة القلبية والفكرية والعملية ضد رموز الكفر والضلال ومقدساتها، في ما تمثله العقيدة من قاعدةٍ مصيريةٍ على مستوى واقع الإنسان والحياة، ما يجعل لها علاقةً وثيقةً بكل القضايا المتصلة بهذا الجانب في الموقع الصميم.

فإذا كان الناس يضمرون العداوة للأشخاص الذين يصطدمون بمصلحة قريب أو نسيب أو وطن أو سياسة، فإن من الطبيعي أن توجّه مشاعر الإحساس بالعداوة للذين يرفضون الله، أو يشركون به أو يحاربون دينه وشريعته، أو يضطهدون أولياءه بطريق أولى، لأن ذلك أكثر أهميّةً في حساب المصير. ولكن ليس معنى العداوة التعسف والفوضى، بل معناها الرفض والمواجهة التي تتحرك بحساباتٍ دقيقة قد يكمن بعضها في داخل النفس، وقد تخرج في بعضها الآخر إلى دائرة العلن، تبعاً للمصلحة العليا لقضية الإيمان، ما يجعل المسألة تدخل في دائرة الحركية في الأسلوب، بينما يبقى لها عمقها الحاسم، المتمثل بالمبدأ. وهكذا أعلن إبراهيم العداوة بشكلٍ حاسمٍ ليحدّد الخطوط الفاصلة بين موقفه وموقفهم، فيكون فريقاً مميزاً في الساحة، في نظرته إلى الآخرين، وفي نظرتهم إليه، لتبدأ ساحة الصراع المريرة التي تثير علامات الاستفهام لدى الناس حول القضايا التي يدور حولها الصراع، ولتبدأ عملية الاختيار من ذلك الموقع.

كيف نستوحي الموقف؟ وهذا ما قد نستوحيه في كثيرٍ من المواقف المتصلة بالمبدأ في خطوط التمايز الواقعي للأشياء، فقد لا يجوز إغفال القاعدة التي ترتكز عليها المواقف التفصيلية، وإبعادها عن الإعلان، بحجة أن ذلك قد يثير الحساسيات، والمشاعر المتوترة، ما قد يوحي بضرورة الهروب إلى عناوين وشعارات أخرى.. تحجب الحقيقة عن الناس.

إننا نعتقد أن مسألة الهويّة العقيديّة لا بد من أن تُعلن، ليكون التوافق والتخالف من خلالها، وليعترف بها الناس من موقعها الفكري والسياسي، لتتحرك التفاصيل من ذلك الموقع، فذلك هو السبيل لتحقيق التوازن في الحركة، لأن المشاعر المتوترة التي يثيرها الإعلان الحاسم سوف تتبخر وتهدأ، لتفسح في المجال للأمر الواقع أن يفرض نفسه. إبراهيم يعلن التزامه برب العالمين {إِلاَّ رَبَّ الْعاَلَمِينَ} قيل: إنه استثناء منقطع، لعدم دخوله في المستثنى منه، لأنه ليس ممن يعبدونه، فيكون المعنى: إنهم عدو لي، لكن رب العالمين ليس كذلك، فإنه الرب الذي أعبده وأخلص له لأنه يملك مني ما لا يملكه أحد، وينعم علي بما لم ينعم به أحد عليّ.