وقوله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } أي : قد حصل المقصودُ من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح .
وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا ، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس ونودي إبراهيم ، عليه السلام ، عند ذلك : { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } . وقوله : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 2 ، 3 ] .
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل ، خلافا لطائفة من المعتزلة ، والدلالة من هذه ظاهرة ؛ لأن الله تعالى شرع لإبراهيم ذَبْحَ ولده ، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء ، وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ }
وقوله : وَنادَيْناهُ أنْ يا إبْراهِيمُ قَدْ صَدّقْتَ الرؤْيا وهذا جواب قوله : فَلَمّا أسْلَما ومعنى الكلام : فلما أسلما وتلّه للجبين ، وناديناه أن يا إبراهيم وأدخلت الواو في ذلك كما أدخلت في قوله : حتى إذا جاءُوها وَفُتِحَتْ أبْوابُها وقد تفعل العرب ذلك فتدخل الواو في جواب فلما ، وحتى وإذا تلقيها .
ويعني بقوله : قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيا التي أريناكها في منامك بأمرناك بذبح ابنك .
وقوله : إنّا كَذلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ يقول : إنا كما جَزَيْناك بطاعتنا يا إبراهيم ، كذلك نجزى الذين أحسنوا ، وأطاعوا أمرنا ، وعملوا في رضانا .
{ وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } بالعزم والإتيان بالمقدمات . وقد روي أنه أمر السكين بقوته على حلقه مرارا فلم تقطع ، وجواب " لما " محذوف تقديره كان ما كان مما ينطلق به الحال ولا يحيط به المقال ، من استبشارهما وشكرهما لله تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله والتوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله ، وإظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك . { إنا كذلك نجزي المحسنين } تعليل لإفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما ، واحتج به من جوز النسخ قبل وقوعه فإنه عليه الصلاة والسلام كان مأمورا بالذبح لقوله { يا أبت افعل ما تؤمر } ولم يحصل .
وتصديق الرؤيا : تحقيقها في الخارج بأن يعمل صورة العمل الذي رآه يقال : رؤيا صادقة ، إذا حصل بَعدها في الواقع ما يماثل صورةَ ما رآه الرائي قال الله تعالى : { لقد صدق اللَّه رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] . وفي حديث عائشة : « أول ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَق الصبح » . وبضد ذلك يقال : كذبتْ الرؤيا ، إذا حصل خلاف ما رأى . وفي الحديث : " إذا اقترب الزمان لم تكد تَكذب رؤيا المؤمن " ، فمعنى { قد صدَّقْتَ الرؤيا } قد فعلتَ مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله . وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك .
والمراد : أنه صدق ما رآه إلى حدِّ إمرار السكين على رقبة ابنه ، فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطابُ نسخاً لما في الرؤيا من إيقاع الذبح ، وذلك جاء من قِبل الله لا من تقصير إبراهيم ، فإبراهيم صدَّق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مِثالها ، فأُطلق على تصديقه أكثرَها أنه صدَّقها ، وجُعِل ذبح الكبش تأويلاً لذبح الولد الواقع في الرؤيا .
وجملة { إنَّا كذلك نَجزي المحسنين } تعليل لجملة { وناديناهُ } لأن نداء الله إياه ترفيع لشأنه فكان ذلك النداء جزاء على إحسانه . وهذه الجملة يجوز أن تكون من خطاب الله تعالى إبراهيمَ ، ويجوز أن تكون معترضة بين جُمل خطاب إبراهيم ، والإِشارة في قوله : { كذلك } إلى المصدر المأخوذ من فعل { صَدَّقتَ } من المصدر وهو التصديق مثل عَود الضمير على المصدر المأخوذ من { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، أي إنا نجزي المحسنين كذلك التصديق ، أي مثل عظمة ذلك التصديق نجزي جزاءً عظيماً للمحسنين ، أي الكاملين في الإِحسان ، أي وأنت منهم .
ولِما يتضمنه لفظ الجزاء من معنى المكافأة ومماثلة المجزي عليه عُظم شأن الجزاء بتشبيهه بمشبه مشار إليه بإشارة البعيد المفيد بُعداً اعتبارياً وهو الرفعة وعُظم القدر في الشرف ، فالتقدير : إنا نجزي المحسنين جزاء كذلك الإِحسان الذي أحسنتَ به بتصديقك الرؤيا ، مكافأة على مقدار الإِحسان فإنه بذل أعَزّ الأشياء عليه في طاعة ربّه فبذل الله إليه من أحسن الخيرات التي بيده تعالى ، فالمشبه والمشبه به معقولان إذ ليس واحد منهما بمشاهد ولكنهما متخيَّلان بما يتسع له التخيّل المعهود عند المحسنين مما يقتضيه اعتقادهم في وعْد الصادق من جزاءِ القادر العظيم ، قال تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] .
ولِمَا أفاد اسم الإِشارة من عظمة الجزاء أُكّد الخبر ب { إنَّ } لدفع توهم المبالغة ، أي هو فوق ما تعْهده في العظمة وما تُقدره العقول .
وفهم من ذكر المحسنين أن الجزاء إحسان بمثل الإِحسان فصار المعنى : إنا كذلك الإِحسان العظيم الذي أحسنته نجزي المحسنين ، فهذا وعد بمراتب عظيمة من الفضل الرباني ، وتضمن وعد ابنه بإحسان مثله من جهة نوط الجزاء بالإِحسان ، وقد كان إحسان الابن عظيماً ببذل نفسه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.