السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (105)

{ وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا } أي : بالعزم والإتيان بالمقدمات ما أمكنك .

تنبيه : في جواب لما ثلاثة أوجه أظهرها : أنه محذوف ، أي : نادته الملائكة عليهم السلام أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما ، وقدره بعضهم بعد الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه .

ونقل ابن عطية أن التقدير : فلما أسلما سلما وتله للجبين ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل .

الثاني : أنه وتله للجبين والواو زائدة ، وهو قول الكوفيين والأخفش ، الثالث : أنه وناديناه والواو زائدة أيضاً واقتصر على هذا الجلال المحلي ، وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار : أن إبراهيم عليه السلام لما رأى ذبح ولده قال الشيطان : لئن لم أفتن آل إبراهيم عند هذا لم أفتن أحداً منهم أبداً فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام وقال : هل تدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : ذهب به يحتطبان من هذا الشعب قال : والله ما ذهب به إلا ليذبحه ، قالت : كلا هو أرحم به وأشد حباً له من ذلك ، قال : إنه يزعم أن الله أمره بذلك ، قالت : فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن إن يطيع ربه ، فخرج من عندها الشيطان ، ثم أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له : يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال : نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال : والله ما يريد إلا أن يذبحك ، قال : ولم ؟ قال : زعم أن ربه أمره ، قال : فليفعل ما أمره به ربه فسمع وطاعة ، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم فقال له : أين تريد أيها الشيخ ؟ قال : أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه ، قال : والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ولدك هذا ، فعرفه إبراهيم فقال : إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئاً كما أراد الله عز وجل .

وروى أبو الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنه : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . فإن قيل : لم قال تعالى : { قد صدقت الرؤيا } وكان قد رأى الذبح ولم يذبح ؟ أجيب : بأنه جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب استسلامهما لأمر الله تعالى وقد فعلا وقيل : كان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم وقد فعل في اليقظة ما رآه في النوم ، ولذلك قال : { قد صدقت الرؤيا } قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذه التكاليف الشاقة الشديدة وظهر منه كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى : { قد صدقت الرؤيا } وقوله تعالى : { إنا كذلك نجزي المحسنين } ابتداء إخبار من الله تعالى ، والمعنى : إنا كما عفونا عن ذبح ولدك كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا ، قال مقاتل : جزاء الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه .