وقد تلقى كل واحد منهم لوم غيره عليه بإحقاق نفسه بالملامة وإشراك بقيتهم فيها فقال كل واحد منهم : { يا ويلنا إنّا كنّا طاغين } إلى آخره ، فأسند هذا القول إلى جميعهم لذلك .
فجملة { قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين } إلى آخرها يجوز أن تكون مبينة لجملة { يتلاومون ، } أي يلوم بعضهم بعضاً بهذا الكلام فتكون خبراً مستعملاً في التقريع على طريقة التعريض بغيره والإِقرار على نفسه ، مع التحسر والتندم بما أفاده { يا ويلنا . } وذلك كلام جامع للملامة كلها ولَم تعطف الجملة لأنها مبينة .
ويجوز أن تكون جوابَ بعضهم بعضاً عن لومه غيره ، فكما أجمعوا على لوم بعضهم بعضاً كذلك أجمعوا على إجابة بعضهم بعضاً عن ذلك الملام فقال كل مَلُوم للائِمِه { يا ويلنا إنا كنّا طاغين } الخ جواباً بتقرير ملامه والاعتراف بالذنب ورجاء العفو من الله وتعويضِهم عن جنتهم خيراً منها إذا قبل توبتهم وجعل لهم ثواب الدنيا مع ثواب الآخرة ، فيكون ترك العطف لأن فعل القول جرى في طريقة المحاورة .
والإِقبال : حقيقته المجيء إلى الغير من جهة وجهه وهو مشتق من القُبُل وهو ما يبدو من الإِنسان من جهة وجهه ضد الإِدبار ، وهو هنا تمثيل لحال العناية باللَّوم .
واللوم : إنكار متوسط على فعل أو قوللٍ وهو دون التوبيخ وفوق العتاب ، وتقدم عند قوله تعالى : { فإنهم غير مَلومين } في سورة المؤمنين ( 6 ) .
والطغيان : تجاوز الحدّ المتعارف في الكِبْر والتعاظم والمعنى : إنا كنا طاغين على حدود الله .
ثم استأنفوا عن ندامتهم وتوبتهم رجاءَهم من الله أن يتوب عليهم فلا يؤاخذهم بذنبهم في الآخرة ولا في الدّنيا فيمحوَ عقابه في الدنيا محواً كاملاً بأن يعوضهم عن جنتهم التي قدر إتلافها بجنة أخرى خيراً منها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
لقد طغينا في نعمة الله تعالى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال أصحاب الجنة: يا ويلنا إنا كنا مُبْعَدين: مخالفين أمر الله...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنا كنا طاغين} في هذا تمام التوبة؛ ففيه أنهم أظهروا الندامة على نسق منهم من أوجه ثلاثة: مرة بما وصفوا أنفسهم بالظلم، ومرة بما لاموا أنفسهم، ومرة بما وصفوا أنفسهم بالطغيان...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم (قالوا يا ويلنا) والويل: غلظ المكروه الشاق على النفس، والويس دونه. والويح وسط بينهما، وإنما نودي بالويل بيانا عن حال الشدة، كأنه يقول يا ويل تعال فانه من أحيانك.
(إنا كنا طاغين) أي علونا في الظلم وتجاوزنا الحد فيه، فالطغيان العلو في الظلم، والداعي إليه طلب الارتفاع بغير استحقاق بالقهر والاعتصاب.
وقيل: الطاغي المتجاوز للحد في الفساد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
لأنّ منهم من زين، ومنهم من قبل، ومنهم من أمر بالكف وعذر ومنهم من عصى الأمر، ومنهم من سكت وهو راض.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أجمعوا على أنهم طغوا، أي تعدوا ما يلزم من مواساة المساكين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم ها هم أولاء يتركون التلاوم ليعترفوا جميعا بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
في ما سوّلت لنا شياطين الشرّ في أنفسنا من الطغيان الذاتي على مقام ربنا، وعلى الناس من حولنا، فلم نستطع أن ندرك جيداً حجمنا الطبيعي في عبوديتنا لله التي تفرض علينا أن نتعرف حدود قدرتنا وطبيعة حاجتنا المطلقة إليه، كما نتعرف حدود مسؤوليتنا في أنفسنا، وفي ما نملك من مالٍ وجاهٍ ونحوه، وكيف يجب أن نجعل كل حياتنا مظهراً متحركاً لعبوديتنا لله. إنه النداء بالويل الذي يحس به الإنسان وهو يرى نفسه على حافة الهاوية التي تقوده إلى الهلاك، وتتصاعد الحسرة في نفوسهم، ثم تبدأ الرغبة في آفاقها الروحية لترتفع إلى الله الذي أدركوه في مواقع رحمته في ما شعروا به من آفاق عظمته، وبدأت الأمنيات الروحية خلافاً لتلك الأمنيات المادية، في حركةٍ ابتهاليةٍ خاشعةٍ تهزم اليأس في نفوسهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يضيف تعالى: (قالوا يا ويلنا إنّا كنّا طاغين). لقد اعترفوا في المرحلة السابقة بالظلم، وهنا اعترفوا بالطغيان، والطغيان مرحلة أعلى من الظلم، لأنّ الظالم يمكن أن يستجيب لأصل القانون إلاّ أنّ غلبة هواه عليه يدفعه إلى الظلم، أمّا الطاغي فإنّه يرفض القانون ويعلن تمرّده عليه ولا يعترف برسميّته. ويحتمل أن يكون المقصود بالظلم هو ظلم النفس، والمقصود بالطغيان هو التجاوز على حقوق الآخرين.