وقوله : " قالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا " اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك . فقال بعضهم في ذلك ، ما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد " قالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى " لا حجة لي .
وقوله : " وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا " اختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وقد كنت بصيرا بحجتي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد " وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا " قال : عالما بحجتي .
وقال آخرون : بل معناه : وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء . ذكر من قال ذلك
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا " في الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " قالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا " قال : كان بعيد البصر ، قصير النظر ، أعمى عن الحقّ .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عزّ وجلّ ثناؤه ، عمّ بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر ، ولم يخصص منه معنى دون معنى ، فذلك على ما عمه فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية ، قال : ربّ لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء ، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله .
فإن قال قائل : وكيف قال هذا لربه : لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى مع معاينته عظيم سلطانه ، أجهل في ذلك الموقف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء ، أم ما وجه ذلك ؟ قيل : إن ذلك منه مسألة لربه يعرّفه الجرم الذي استحقّ به ذلك ، إذ كان قد جهله ، وظنّ أن لا جرم له ، استحق ذلك به منه ، فقال : ربّ لأيّ ذنب ولأيّ جرم حشرتني أعمى ، وقد كنت من قبل في الدنيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستحق منك من العقاب .
ثم أخبر عن حالة أُخرى هي أيضاً في يوم القيامة وهي حشرهم عمياً ، ثم يجيء قوله { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } [ طه : 127 ] معنى هذا الذي ذكرناه من المعيشة والعمى ونحوه هو عذابه في الآخرة وهو { أشد وأبقى } [ طه : 127 ] من كل ما يقع عليه الظن والتخيل ، فكأنه ذكر نوعاً من عذاب الآخرة .
ثم أخبر أن عذاب الآخرة أشد وأبقى . وقرأت فرقة «ونحشره » بالنون ، وقرأت فرقة «ويحشره » بالياء وقرأت فرقة «ويحشرْه » بسكون الراء ، وقرأت فرقة «أعمى » بالإمالة ، وقالت فرقة العمى هنا هو عمى البصيرة عن الحجة .
قال القاضي أبو محمد : ولو كان هذا لم يخش الكافر لأنه كان أعمى البصيرة ويحشر كذلك ، وقالت فرقة العمى عمى البصر ع وهذا هو الأوجه مع أن عمى البصيرة حاصل في الوجهين ، وأما قوله { ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً } [ طه : 102 ] فمن رآه في العينين فلا بد أن يتأول فيها مع هذه إما أنها في طائفتين أو في موطنين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم في ذلك... عن مجاهد "قالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى "لا حجة لي.
وقوله: "وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا" اختلف أهل التأويل في ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: وقد كنت بصيرا بحجتي...
وقال آخرون: بل معناه: وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء... في الدنيا...
والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله عزّ وجلّ ثناؤه، عمّ بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر، ولم يخصص منه معنى دون معنى، فذلك على ما عمّه، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية، قال: ربّ لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله.
فإن قال قائل: وكيف قال هذا لربه: "لِمَ حَشَرْتَنِي أعْمَى" مع معاينته عظيم سلطانه، أجهل في ذلك الموقف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء، أم ما وجه ذلك؟ قيل: إن ذلك منه مسألة لربه يعرّفه الجرم الذي استحقّ به ذلك، إذ كان قد جهله، وظنّ أن لا جرم له، استحق ذلك به منه، فقال: ربّ لأيّ ذنب ولأيّ جرم حشرتني أعمى، وقد كنت من قبل في الدنيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستحق منك من العقاب.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال مجاهد: قوله: {رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا} قال: بلا حجة لي {وقد كنت بصيرا} في الدنيا. لكن الأشبه، هو ما ذكرنا من حقيقة ذهاب البصر؛ إذ لم يكن للكافرين حجة في الدنيا حتى يقول {وقد كنت بصيرا} ثم اختلف فيه: قال بعضهم: ذلك بعد ما حوسبوا، وسيقوا إلى النار، نعوذ بالله من النار. فعند ذلك يعمى عليه البصر. وقال بعضهم: لا، ولكن يبعثون من قبورهم، ويحشرون عميانا، والله أعلم.
{قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} ففي تقرير هذا الجواب وجهان: أحدهما: أنه تعالى إنما أنزل به هذا العمى جزاء على تركه اتباع الهدى والإعراض عنه. والثاني: هو أن الأرواح البشرية إذا فارقت أبدانها جاهلة ضالة عن الاتصال بالروحانيات بقيت على تلك الحالة بعد المفارقة وعظمت الآلام الروحانية، فلهذا علل الله تعالى حصول العمى في الآخرة بالإعراض عن الدلائل في الدنيا، ومن فسر المعيشة الضنك بالضيق في الدنيا، قال إنه تعالى بين أن من أعرض عن ذكره في الدنيا فله المعيشة الضنك في الدنيا، والعمى في الآخرة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" قال رب لم حشرتني أعمى "أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. "وقد كنت بصيرا "أي في الدنيا، وكأنه يظن أنه لا ذنب له.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
قال على وجه الذل والمراجعة والتألم والضجر من هذه الحالة: {رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ} في دار الدنيا {بَصِيرًا} فما الذي صيرني إلى هذه الحالة البشعة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جعل الله عقابه يوم الحشر أن يكون أعمى تمثيلاً لحالته الحسية يومئذ بحالته المعنوية في الدنيا، وهي حالة عدم النظر في وسائل الهدى والنجاة. وذلك العمى عنوان على غضب الله عليه وإقصائه عن رحمته، فأعمى الأول مجاز وأعمى الثاني حقيقة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يسأل ربه لم حشرتني أعمى، عاجزا عن الدفاع، وقد عميت عن الدليل، ولم أعرف وجهه مع أنني كنت في الدنيا أبصر القول ومراميه، وأجادل، وأخاصم، وأنازل وأقاوم، والآن أنا مستسلم لمن يقودني كالأعمى، ونادى ب {رب} معترفا بأنه خالقه وبارئه، وقد كان من قبل يشرك بربه في العبادة، ويضل ضلالا بعيدا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ربما يظهر من هذه الآية أن العمى هنا هو عمى الحس بدليل مقارنة الإنسان له بالبصر في الدنيا، فيأتي بذلك الاعتراض بأن الظاهر من الآيات التي تتحدث عن يوم القيامة، كقوله تعالى: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} [السجدة: 12]؛ وقوله تعالى {اقْرَأْ كَتَابَكَ} [الإسراء: 14]، أن هناك بصراً في يوم القيامة. ثم كيف يأتي هذا الكلام من الإنسان الذي كان بصيراً في الدنيا؟ وربما يوجه ذلك بأن «من الظاهر المسلّم به من الكتاب والسنة أن النظام الحاكم في الآخرة غير النظام الحاكم لها في الدنيا الذي تألفه في الطبيعة، وكون البصير مبصراً لكل مبصر، والأعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي، لا دليل على عمومه للنظام الأخروي؛ فمن الجائز أن يتبعض الأمر هناك، فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة، وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة، وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها». ولكننا نتحفظ على هذا التوجيه، لأن الظاهر من النص القرآني أنه يتوجه إلى الناس بما يفهمونه من معاني الكلمات، بالصورة المألوفة لديهم في تصورهم للأشياء، ولذلك فإن التبعيض في مسائل العمى والبصر بحسب اختلاف النظام الأخروي عن النظام الدنيوي، لا يدل عليه شيء، إن لم يكن الدليل على خلافه، كما ألمحنا إليه. أما ما نرجحه في المسألة، فهو أن التعبير وارد على سبيل المجاز من ناحية العمى والبصر القلبيين اللذين يتصلان بمنطقة الوعي الفكري للإنسان لا بمنطقة الرؤية الحسية. وليس هذا التعبير بعيداً عن الأسلوب القرآني، فقد جاء في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، ما يوحي بأن العمى الفكري والروحي ملحوظ في القرآن، بل هو الأبرز في أجواء الحديث عن الكافرين الذين يعتبرهم لا ينفتحون على الطاقات الحسية من السمع والبصر بشكلٍ واعٍ، فإن لهم عيوناً لا يبصرون بها، ولهم آذاناً لا يسمعون بها، كما أنهم لا ينفتحون على الطاقة الفكرية التي يملكونها، فإن لهم قلوباً لا يعقلون بها. ولعل الدليل على إرادة العمى المعنوي القلبي في هذه الآية ما جاء في الآية الأخرى جواباً على تساؤلهم.