{ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ } أي : إلى حكم الشرع { مُذْعِنِينَ } وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي ، وإنما ذلك لأجل موافقة أهوائهم ، فليسوا ممدوحين في هذه الحال ، ولو أتوا إليه مذعنين ، لأن العبد حقيقة ، من يتبع الحق فيما يحب ويكره ، وفيما يسره ويحزنه ، وأما الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه ، وينبذه عند مخالفته ، ويقدم الهوى على الشرع ، فليس بعبد على الحقيقة .
وقوله : { وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } ، أي : وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم ، جاؤوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله : { مُذْعِنِينَ } وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق ، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ثَمّ . فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق ، بل لأنه موافق لهواه ؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده ، عدل عنه إلى غيره ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن يَكُنْ لّهُمُ الْحَقّ يَأْتُوَاْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوَاْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلََئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وإن يكن الحقّ لهؤلاء الذين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم ، فيأبَون ويُعْرِضون عن الإجابة إلى ذلك ، قِبَلَ الذين يدعونهم إلى الله ورسوله ، يأتوا إلى رسول الله مذعنين ، يقول مُذْعِنِينَ منقادين لحكمه ، مقرّين به طائعين غير مكرهين يقال منه : قد أذعن فلان بحقه : إذا أقرّ به طائعا غير مستكْرَه وانقاد له وسلّم . وكان مجاهد فيما ذكر عنه يقول في ذلك ، ما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله : يَأْتُوا إلَيهِ مُذْعِنِينَ قال : سِراعا .
قوله : { وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه } أي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومعنى : { وإن يكن لهم الحق } أنه يكون في ظن صاحب الحق ويقينه أنه على الحق . ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ، فعُلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون . وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل ، وشأن المبطل أن يأبى العدل لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس ، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق .
وهذا وجه موقع جملة : { أفى قلوبهم مرض } إلى آخرها .
ووقع حرف { إذا } المفاجأة في جواب { إذا } الشرطية لإفادة مبادرتهم بالإعراض دون تريث لأنهم قد أيقنوا من قبل بعدالة الرسول وأيقنوا بأن الباطل في جانبهم فلم يترددوا في الإعراض .
ولما كان هذا شأناً عجيباً استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية لأنهم كانوا يظهرون خلافها .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإن يكن الحقّ لهؤلاء الذين يدعون إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، فيأبَون ويُعْرِضون عن الإجابة إلى ذلك، قِبَلَ الذين يدعونهم إلى الله ورسوله، يأتوا إلى رسول الله مذعنين، يقول "مُذْعِنِينَ": منقادين لحكمه، مقرّين به طائعين غير مكرهين يقال منه: قد أذعن فلان بحقه: إذا أقرّ به طائعا غير مستكْرَه وانقاد له وسلّم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
والمعنى: أنهم لمعرفتهم أنه ليس معك إلا الحق المرّ والعدل البحت. يزورّون عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحق، لئلا تنتزعه من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما ذاب لهم في ذمّة الخصم.
ونبه بقوله تعالى: {وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا، فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض بل سارعوا إلى الحكم وأذعنوا ببذل الرضا، وفي ذلك دلالة على أنه ليس بهم اتباع الحق، وإنما يريدون النفع المعجل، وذلك أيضا نفاق.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فإذعانه أولا لم يكن عن اعتقاد منه أن ذلك هو الحق، بل لأنه موافق لهواه؛ ولهذا لما خالف الحقّ قصده، عدل عنه إلى غيره؛ ولهذا قال تعالى: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وإن يكن} أي كوناً ثابتاً جداً {لهم} أي على سبيل الفرض {الحق} أي بلا شبهة {يأتوا إليه} أي بالرسول {مذعنين} أي منقادين أتم انقياد لما وافق من أهوائهم لعلمهم أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، لا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ} أي: إلى حكم الشرع {مُذْعِنِينَ} وليس ذلك لأجل أنه حكم شرعي، وإنما ذلك لأجل موافقة أهوائهم، فليسوا ممدوحين في هذه الحال، ولو أتوا إليه مذعنين، لأن العبد حقيقة، من يتبع الحق فيما يحب ويكره، وفيما يسره ويحزنه، وأما الذي يتبع الشرع عند موافقة هواه، وينبذه عند مخالفته، ويقدم الهوى على الشرع، فليس بعبد على الحقيقة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الرضى بحكم الله ورسوله هو دليل الإيمان الحق. وهو المظهر الذي ينبئ عن استقرار حقيقة الإيمان في القلب. وهو الأدب الواجب مع الله ومع رسول الله. وما يرفض حكم الله وحكم رسوله إلا سيئ الأدب معتم، لم يتأدب بأدب الإسلام، ولم يشرق قلبه بنور الإيمان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومفهومه أن من لم يكن له الحق منهم وهو العالم بأنه مبطل لا يأتي إذا دعي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فعُلم منه أن الفريق المعرضين هم المبطلون. وكذلك شأن كل من هو على الحق أنه لا يأبى من القضاء العادل، وشأن المبطل أن يأبى العدل لأن العدل لا يلائم حبه الاعتداء على حقوق الناس، فسبب إعراض المعرضين علمهم بأن في جانبهم الباطل وهم قد تحققوا أن الرسول لا يحكم إلا بصراح الحق...
ولما كان هذا شأناً عجيباً استؤنف عقبه بالجملة ذات الاستفهامات المستعملة في التنبيه على أخلاقهم ولفت الأذهان إلى ما انطووا عليه والداعي إلى ذلك أنها أحوال خفية لأنهم كانوا يظهرون خلافها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} وهذا ما يفعله كثير من الناس إذا ما واجهوا مشكلةً مع الآخرين، فهم يبادرون إلى سؤال أهل الاختصاص بالشريعة، ليعلموا كيف يكون مجرى الدعوى، وهل تكون لصالحهم إذا أثيرت أمام الحاكم الشرعي، أو تكون لغير صالحهم، فإذا رأوها منسجمة مع ما يريدون أقبلوا إلى حكم الشريعة، وإلاّ أعرضوا عنها. ولكن، لِمَ يفعلون ذلك؟ وكيف يواجهون المسألة بهذه الطريقة؟