اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِن يَكُن لَّهُمُ ٱلۡحَقُّ يَأۡتُوٓاْ إِلَيۡهِ مُذۡعِنِينَ} (49)

{ وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } . منقادين لحكمه ، أي : إذا كان الحق لهم على غيرهم أسرعوا إلى حكمه لتيقنهم أنه كما يحكم عليهم بالحق يحكم لهم أيضاً بالحق ، وهذا يدل على أنهم إنما يعرضون متى عرفوا الحق لغيرهم أو شكوا . فأما إذا عرفوه لأنفسهم عدلوا عن الإعراض وسارعوا إلى الحكم وأذعنوا ( ببذل الرضا{[18]} ) {[19]} .

قوله : «ليَحْكُم » أفرد الضمير وقد تقدَّمه اسمان وهما : «اللَّهُ ورَسُولُهُ » فهو كقوله : { والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ }{[20]} [ التوبة : 62 ] لأنَّ حكم رَسُولِهِ هو حُكْمُهُ .

قال الزمخشري : كقولك{[21]} : أَعْجَبَنِي زَيْدٌ وَكَرَمُهُ ، أي : كَرَمُ زَيْدٍ ، ومنه :

وَمَنْهَلٍ مِنَ الفَيَافِي أَوْسَطُهْ *** غَلَّسْتُهُ{[22]} قَبْلَ القَطَا وفَرَطُهْ{[23]}

أي : قبل فَرطِ ( القطا{[24]} ){[25]} يعني : قبل تقدَّم القطا . وقرأ أبو جعفر والجحدري وخالد بن إلياس والحسن : «ليُحْكَمَ بَيْنَهُمْ » هنا ، والتي بعدها{[26]} مبنياً للمفعول{[27]} ، والظرف قائم مقام الفاعل .

قوله : «إذا فَرِيقٌ » «إذَا » هي الفجائية ، وهي جواب «إذَا » الشرطية أولاً وهذا أحد{[28]} الأدلة على منع أن يعمل في «إذا » الشرطية جوابها ، فإن ما بعد الفجائية لا يعمل فيما قبلها ، كذا ذكره أبو حيان{[29]} ، وتقدم تحرير هذا وجواب الجمهور عنه .

قوله : «إلَيْهِ » يجوز تعلقه ب «يَأْتوا{[30]} » ، لأنَّ «أَتَى » و «جَاءَ » قد جاءا مُعَدَّيَيْن{[31]} ب «إلى » ، ويجوز أن يتعلق ب «مُذْعِنِينَ » لأنه بمعنى : مسرعين في الطاعة . وصححه الزمخشري ، قال : لتقدُّم صلته ، ولدلالته على الاختصاص{[32]} ، و«مُذْعِنِينَ » حال{[33]} والإذعان : الانقياد ، يقال : أَذْعَنَ فلانٌ لفلان ، انقَادَ لَهُ{[34]} . وقال الزجاج : «الإذْعَانُ : الإسراع مع الطاعة »{[35]} .

قوله : { أَمِ ارتابوا أَمْ يَخَافُونَ } . «أَمْ » فيهما منقطعة ، فتقدر عند الجمهور بحرف الإضراب وهمزة الاستفهام ، تقديره : بل أَرْتَابُوا بل أَيَخَافُونَ ، ومعنى الاستفهام هنا : التقرير والتوقيف{[36]} ، ويبالغ فيه تارة في الذم كقوله :

أَلَسْتَ مِنَ القَوْم الَّذِينَ تَعَاهَدُوا *** عَلَى اللُّؤمِ وَالفَحْشَاءِ في سَالِفِ الدَّهْرِ{[37]}

وتارة في المدح كقوله جرير :

أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايا *** وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ{[38]}

و «أَنْ يَحِيفَ » مفعول الخوف{[39]} والحوف : الميل والجور في القضاء ، يقال : حاف في قضائه ، أي : ( مال{[40]} ){[41]} .


[18]:قال سيبويه 3/25 "فإن قلت: ما بالي أقول: واحد اثنان، فأشم الواحد، ولا يكون ذلك في هذه الحروف فلأن الواحد اسم متمكن، وليس كالصوت، وليست هذه الحروف مما يدرج وليس أصلها الإدراج...".
[19]:ينظر: المشكل 1/ 123.
[20]:ينظر: الكتاب 2/107.
[21]:ينظر: البحر المحيط 2/391.
[22]:سقط في ب.
[23]:ينظر: الدر المصون 2/6.
[24]:ينظر ديوانه ص 216، ولسان العرب (ثور)، وخزانة الأدب 7/210، ورصف المباني ص 41 والمصنف 1/68، والدر المصون 2/6.
[25]:قرأ بها عيسى بن عمر كما في الشواذ 129، وستأتي في سورة "ص" آية 1،2.
[26]:تقدمت.
[27]:سقط في أ.
[28]:سقط في أ.
[29]:ينظر: المشكل 1/123.
[30]:ينظر: الكتاب 3/324.
[31]:ينظر:الإملاء 1/ 122.
[32]:ينظر: الكشاف 1/335، والمحرر الوجيز 1/397، والبحر المحيط 2/ 389، الدر المصون 2/7. وأما رد الفارسي لكلام أبي إسحاق الزجاج وانتصاره للأخفش فلم أجده في "الحجة" في مظنته، بل إنه لم يحك مذهب كسر الميم.
[33]:ينظر معاني القرآن للزجاج 1/327. وفي ب الذي حكاه الأخفش من كسر الميم- خطأ لا يجوز، ولا تقوله العرب لثقله.
[34]:وهذا الطعن عندي ضعيف، لأن الكسرة حركة فيها بعض الثقل والياء أختها، فإذا اجتمعا، عظم الثقل، ثم يحصل الانتقال منه إلى النطق بالألف في قولك: "الله" وهو في غاية الخفة، فيصير اللسان منتقلا من أثقل الحركات إلى أخف الحركات، والانتقال من الضد إلى الضد دفعة واحدة صعب على اللسان، أما إذا جعلنا الميم مفتوحة، انتقل اللسان من فتحة الميم إلى الألف في قولنا: "الله" فكان النطق بها سهلا، فهذا وجه تقرير قول سيبويه والله أعلم. ينظر الرازي 7/134.
[35]:(10) في أ: وبقوله.
[36]:سقط في أ.
[37]:روي ذلك عن مقاتل، وذكره أبو حيان في البحر المحيط 2/389.
[38]:آية 61 من سورة آل عمران. والبهل: اللعن: وفي حديث ابن الصبغاء قال: الذي بهله بريق أي الذي لعنه ودعا عليه رجل اسمه بريق. وبهله الله بهلا: لعنه. وعليه بهلة الله وبهلته أي لعنته. وفي حديث أبي بكر: من ولي من أمور الناس شيئا فلم يعطهم كتاب الله فعليه بهلة الله أي لعنة الله، وتضم باؤها وتفتح. وباهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وابتهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: الملاعنة. يقال: باهلت فلانا؟ أي لاعنته، ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا. وفي حديث ابن عباس: من شاء باهلته أن الحق معي. ينظر: اللسان (بهل).
[39]:(نجران) بفتح النون وسكون الجيم: بلد كبير على سبع مراحل من مكة إلى جهة اليمن، يشتمل على ثلاثة وسعين قرية مسيرة يوم للراكب السريع، كذا في زيادات يونس بن بكير بإسناد له في المغازي، وذكر ابن إسحاق أنهم وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وهم حينئذ عشرون رجلا، لكن أعاد ذكرهم في الوفود بالمدينة فكأنهم قدموا مرتين. قال ابن سعد: كان النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليهم، فخرج إليه وفدهم في أربعة عشر رجلا من أشرافهم، وعند ابن إسحاق أيضا من حديث كرز بن علقمة: أنهم كانوا أربعة وعشرين رجلا، وسرد أسماءهم. وفي قصة أهل نجران من الفوائد أن إقرار الكافر بالنبوة لا يدخل في الإسلام، حتى يلتزم أحكام الإسلام، وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعينت مصلحته، وفيها مشروعية مباهلة المخالف إذا أصر بعد ظهور الحجة، وقد دعا ابن عباس إلى ذلك ثم الأوزاعي، ووقع ذلك لجماعة من العلماء، ومما عرف بالتجربة أن من باهل وكان مبطلا لا تمضي عليه سنة من يوم المباهلة، ووقع لي ذلك مع شخص كان يتعصب لبعض الملاحدة، فلم يقم بعدها غير شهرين، وفيها مصالحة أهل الذمة على ما يراه الإمام من أصناف المال، ويجري ذلك مجرى الجزية عليهم؛ فإن كلا منهما مال يؤخذ من الكفار على وجه الصغار في كل عام، وفيها بعث الإمام الرجل العالم الأمين إلى أهل الهدنة في مصلحة الإسلام، وفيها منقبة ظاهرة لأبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى أهل نجران؛ ليأتيه بصدقتاهم وجزيتهم، وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة؛ لأن أبا عبيدة توجه معهم، فقبض مال الصلح ورجع، وعلي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية، ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة والله أعلم. ينظر فتح الباري 8/428، 429.
[40]:والحبرة والحبرة: ضرب من برود اليمن منمر، والجمع حبر وحبرات. الليث: حبرة ضرب من البرود اليمانية. يقال برد حبير وبرد حبرة، مثل عنبة. على الوصف والإضافة وبرود حبرة. قال: وليس حبرة موضعا أو شيئا معلوما إنما هو وشيء كقولك ثوب قرمز. ينظر لسان العرب 2/749- 750. (حبر)، النهاية في غريب الحديث 1/328.
[41]:سقط في ب.