{ وَيَقُولُونَ } معارضة لها { أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا } التي لم نزل نعبدها نحن وآباؤنا { ل } قول { شَاعِرٍ مَجْنُونٍ } يعنون محمدا صلى اللّه عليه وسلم . فلم يكفهم - قبحهم اللّه - الإعراض عنه ، ولا مجرد تكذيبه ، حتى حكموا عليه بأظلم الأحكام ، وجعلوه شاعرا مجنونا ، وهم يعلمون أنه لا يعرف الشعر والشعراء ، ولا وصفه وصفهم ، وأنه أعقل خلق اللّه ، وأعظمهم رأيا .
وقوله : وَيَقُولُونَ أئِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعرٍ مَجْنُونٍ يقول تعالى ذكره : ويقول هؤلاء المشركون من قريش : أنترك عبادة آلهتنا لشاعر مجنون ؟ يقول : لاتّباع شاعر مجنون ، يعنون بذلك نبّي الله صلى الله عليه وسلم ، ونقول : لا إله إلا الله ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَيَقُولُونَ آئِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم .
يقارن استكبارهم أن يقول بعضهم لبعض : لا نترك آلهتنا لشاعر مجنون ، وأتوا بالنفي على وجه الاستفهام الإِنكاري إظهاراً لكون ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أمر منكر لا يُطمع في قبولهم إياه ، تحذيراً لمن يسمع مقالتهم من أن يجول في خاطره تأمل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم { لا إله إلا الله } . وقوّوا هذا التحذيرَ بجعل حرف الإِنكار مسلّطاً على الجملة الموكَّدة بحرف التوكيد للدلالة على أنهم إذا أتوا ما أنكروه كانوا قد تحقَّق تركُهم آلهتهم تنزيلاً لبعض المخاطبين منزلة من يشك في أن الإِيمان بتوحيد الإِله يفضي إلى ترك آلهتهم ليسدّوا على المخاطبين منافذ التردد أن يتطرق منها إلى خواطرهم .
واللام في { لِشَاعِرٍ } لام العلة والأجْل ، أي لأجْل شاعر ، أي لأجْل دعوته .
وقولهم : « شاعر مجنون » قول موزع ، أي يقول بعضهم : هو شاعر ، وبعضهم : هو مجنون ، أو يقولون مرة : شاعر ، ومرة : مجنون ، كما في الآية الأخرى { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } [ الذاريات : 52 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَيَقُولُونَ أئِنّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعرٍ مَجْنُونٍ" يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون من قريش: أنترك عبادة آلهتنا لشاعر مجنون؟ يقول: لاتّباع شاعر مجنون -يعنون بذلك نبّي الله صلى الله عليه وسلم- ونقول: لا إله إلا الله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جمعوا في هذا متضادّين، لأن الشاعر، هو الذي يبلغ في العلم غايته، والمجنون، هو الذي يبلغ في الجهل غايته، ثم جمعوا بينهما في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قولهم: ساحر، ومجنون: الساحر، هو الذي يبلغ في علم الأشياء غايته... دل أنهم إنما يقولون عن عناد وتعنّت.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
لمَّا لم يحتشموا من وَصفه -سبحانه- بما لا يليق بجلاله، لم يُبالوا بما أطلقوه من المثالب في وصف أنبيائه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ويقولون} أي كل حين ما دلوا به على بعدهم عن الإيمان كل البعد، بسوقهم لقولهم ذلك في استفهام إنكاري مؤكداً: {إئنا لتاركوا آلهتنا} أي عبادتها.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اللام في {لِشَاعِرٍ} لام العلة.
الأجْل أي لأجْل شاعر:أي لأجْل دعوته.
« شاعر مجنون» قول موزع، أي يقول بعضهم: هو شاعر، وبعضهم: هو مجنون، أو يقولون مرة: شاعر، ومرة: مجنون، كما في الآية الأخرى {كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون} [الذاريات: 52].
{وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوۤاْ آلِهَتِنَا} يعني: منصرفون عن عبادتها {لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} أي: من أجله، ومن أجل دعوته.
وعجيب من العرب وهم أمة كلام يُقدِّرون الكلمة ويتذوَّقونها، ويجعلون لها أسواقاً ومعارض، ويُكرِّمون الشعر والشعراء، لدرجة أنهم علَّقوا أجود قصائدهم على أستار الكعبة، عجيب من قوم هذا حالهم أنْ يقولوا {آلِهَتِنَا} وهم يعلمون تماماً معنى الآلهة ومعنى العبادة، فالإله يعني المعبود فبأى حَقٍّ عُبِدَتْ الأصنام؟ بماذا أمرتكم؟ وعن أي شيء نهتْكم؟ ما المنهج الذي جاءتكم به؟
نعم هم يعلمون أنها جمادات، لا تضر ولا تنفع، لكن عبدوها بفطرة التديُّن في الإنسان، فالإنسان بطبعه مُتدين يحب أن يستند إلى قوة أعلى منه يلجأ إليها عند الشدة، قوة تعينه على التجلُّد والتصبُّر للأحداث، وقد وجدوا في هذه الآلهة أنها آلهة بلا تكاليف وبلا متطلبات، فعبدوها من دون الله.
ثم عجيبٌ منهم وهم أمة كلام ألاَّ يفرقوا بين كلام الله في القرآن وبين الشعر، وهم أعلم الناس به وبأوزانه وقوافيه، فأين الشعر من كلام الله في القرآن؟ ثم عجيب منهم أنْ يتهموا رسولَ الله بالجنون، وهم أعلمُ الناس به وبأخلاقه وصفاته وسيرته فيهم قبل بعثته، وما أبعدَ الجنون عن الذي جمع محاسن الصفات وكريم الأخلاق!!
الجنون أنْ يتصرّف المجنون بجوارحه تصرُّفاً لا يمرُّ على العقل، المجنون لا يفاضل بين الأشياء، ولا يعرف الضَّارَّ من النافع، المجنون ليس له خُلُق...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد أطلقوا على النّبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمة (شاعر) لأنّ كلامه كان ينفذ إلى قلوبهم ويحرّك عواطفهم، فأحياناً كان يتكلّم إليهم بكلام يفوق أفضل الأشعار وزناً، في الوقت الذي لم يكن حديثه شعراً، وكانوا يعتبرونه (مجنوناً) لكونه لم يتلوّن بلون المحيط الذي يعيش فيه، ووقف موقفاً صلباً أمام العقائد الخرافية التي يعتقد بها المجتمع المتعصّب حينذاك.