ويعلل القرآن هذه المقولة الضالة فيقول :
( إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولهم عذاب أليم ) .
فهؤلاء الذين لا يؤمنوا بآيات الله لم يهدهم الله إلى الحقيقة في أمر هذا الكتاب ، ولا يهديهم إلى الحقيقة في شيء ما . بكفرهم وإعراضهم عن الآيات المؤدية إلى الهدى " ولهم عذاب أليم " بعد ذلك الضلال المقيم .
يخبر تعالى أنه لا يهدي{[16704]} من أعرض عن ذكره وتَغَافل عما أنزله على رسوله ، ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله ، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته ، وما أرسل به رسله في الدنيا ، ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ } .
يقول تعالى : إن الذين لا يؤمنون بحجج الله وأدلته فيصدّقون بما دلّت عليه ، { لا يَهْدِيهِمُ اللّهُ } يقول : لا يوفقهم الله لإصابة الحقّ ولا يهديهم لسبيل الرشد في الدنيا ، { ولَهُمْ فِي الآخِرَة } ، وعند الله إذا وردوا عليه يوم القيامة عذاب مؤلم موجع . ثم أخبر تعالى ذكره المشركين الذين قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنما أنت مفتر ، أنهم هم أهل الفرية والكذب ، لا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به ، وبرّأ من ذلك نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : إنما يتخرّص الكذب ويتقوّل الباطل ، الذين لا يصدّقون بحجج الله وإعلامه ؛ لأنهم لا يرجون على الصدق ثوابا ، ولا يخافون على الكذب عقابا ، فهم أهل الإفك وافتراء الكذب ، لا من كان راجيا من الله على الصدق الثواب الجزيل ، وخائفا على الكذب العقاب الأليم . وقوله : { وأُولَئِكَ هُمُ الكاذِبُونَ } يقول : والذين لا يؤمنون بآيات الله هم أهل الكذب لا المؤمنون .
المعهود من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته ، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر ، تهمماً بتقبيح فعلهم والتشنيع لخطابهم ، وذلك كقوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم }{[7417]} [ الصف : 5 ] ، والمراد ما ذكرناه ، فكأنه قال : إن الذين لم يؤمنوا لم يهدهم الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الذين لا يؤمنون بآيات الله}، يعني: لا يصدقون بالقرآن أنه جاء من الله عز وجل...
{لا يهديهم الله} لدينه، {ولهم} في الآخرة، {عذاب أليم} يعني: وجيع.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى: إن الذين لا يؤمنون بحجج الله وأدلته فيصدّقون بما دلّت عليه، {لا يَهْدِيهِمُ اللّهُ} يقول: لا يوفقهم الله لإصابة الحقّ ولا يهديهم لسبيل الرشد في الدنيا، {ولَهُمْ فِي الآخِرَة}، وعند الله إذا وردوا عليه يوم القيامة عذاب مؤلم موجع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
لأنهم كانوا يعاندون آيات الله، ويكابرونها، ويكذبون مع علمهم أنها آيات وأنها حق...
فمن علم منه أنه لا يؤمن لا يهديه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنَّ منْ سَبَقَتْ بالشقاوة قسمتُه، لم تتعلق من الحق -سبحانه- به رحمتُه، ومَنْ لم يَهْدِهِ اللَّهُ في عاجله إلى معرفِته، لا يهديه اللَّهُ في آجِلِه إلى جنته...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
المعهود من الوجود أن الذين لا يهديهم الله لا يؤمنون بآياته، ولكنه قدم في هذا الترتيب وأخر، تهمماً بتقبيح فعلهم والتشنيع لخطابهم، وذلك كقوله تعالى: {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم}...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
هددهم على كفرهم بالقرآن بعدما أماط شبهتهم ورد طعنهم فيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فلما بانت بهذا فضيحتهم، كان كأنه قيل: إن من العجب إقدامهم على مثل هذا العار وهم يدعون النزاهة؟ فأجاب بقوله تعالى: {إن الذين لا يؤمنون}، أي: يصدقون كل تصديق معترفين {بآيات الله}، أي: الذي له العظمة كلها، {لا يهديهم الله}، أي: الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق، بل يضلهم عن القصد، فلذلك يأتون بمثل هذه الخرافات، فأبشر لمن بالغ في العناد، بسد باب الفهم والسداد.
ولما كان ربما توهم أنه لكونه هو المضل لا يتوجه اللوم عليهم، نفى ذلك بقوله: {ولهم عذاب أليم}، أي: بذلك، لمباشرتهم له مع حجب المراد عنهم وخلق القدرة لهم، إجراء على عوائد بعض الخلق مع بعض.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
{لاَ يَهْدِيهِمُ اللهُ}، هداية توفيق، وقد هداهم هدى بيان، ولم يقبلوه أو لا يهديهم إِلى الجنة، والمقصد واحد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة معترضة. وورود هذه الآية عقب ذكر اختلاق المتقعّرين على القرآن المرجفين بالقالة فيه بين الدهماء يومئ إلى أن المراد بالذين لا يؤمنون هم أولئك المردود عليهم آنفاً. وهم فريق معلوم بشدة العداوة للنبيء صلى الله عليه وسلم وبالتصلّب في التصدّي لصرف الناس عنه بحيث بلغوا من الكفر غايةً ما وراءها غايةٌ، فحقّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهؤلاء فريق غير معيّن يومئذٍ ولكنهم مشار إليهم على وجه الإجمال، وتكشف عن تعيينهم عواقب أحوالهم...
فقد كان من الكافرين بالنبي صلى الله عليه وسلم أبو جهل وأبو سفيان. وكان أبو سفيان أطولَ مدة في الكفر من أبي جهل؛ ولكن أبا جهل كان يخلط كفره بأذَى النبي صلى الله عليه وسلم والحنقِ عليه. وكان أبو سفيان مقتصراً على الانتصار لدينه ولقومه ودفْع المسلمين عن أن يغلبوهم فحرم الله أبا جهل الهداية فأهلكه كافراً، وهدى أبا سفيان فأصبح من خيرة المؤمنين، وتشرف بصهر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الوليد بن المغيرة وعمر بن الخطاب كافرين وكان كلاهما يدفع الناس من اتّباع الإسلام، ولكن الوليد كان يختلق المعاذير والمطاعن في القرآن وذلك من الكيد، وعمر كان يصرف الناس بالغلظة علناً دون اختلاق، فحرم الله الوليد بن المغيرة الاهتداء، وهدى عمر إلى الإسلام فأصبح الإسلام به عزيز الجانب. فتبيّن الناس أن الوليد من الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأن عمر ليس منهم، وقد كانا معاً كافرين في زمن ما. ويشير إلى هذا المعنى الذي ذكرناه قوله تعالى: {إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار} [سورة الزمر: 3] فوَصف من لا يهديه الله بوصفين الكذب وشدة الكفر. فتبيّن أن معنى قوله تعالى: {الذين لا يؤمنون بآيات الله} من كان الإيمان منافياً لجبِلّة طبعهِ لا لأميال هواه. وهذا يعلم الله أنه لا يؤمن وأنه ليس معرّضاً للإيمان، فلذلك لا يهديه الله، أي لا يكوّن الهداية في قلبه...
وهذا الأسلوب عكس أسلوب قوله تعالى: {إن الذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون} [سورة يونس: 96]، وكل يرمي إلى معنى عظيم. فموقع هذه الجملة من التي قبلها موقع التعليل لجميع أقوالهم المحكيّة والتذييل لخلاصة أحوالهم، ولذلك فصلت بدون عطف. وعطْفُ {ولهم عذاب أليم} على {لا يهديهم} للدّلالة على حرمانهم من الخير وإلقائهم في الشرّ لأنهم إذا حُرموا الهداية فقد وقعوا في الضلالة، وماذا بعد الحقّ إلا الضلال، وهذا كقوله تعالى: {كتب عليه أنه من تولّاه فأنه يضلّه ويهديه إلى عذاب السعير} [سورة الحج: 4]. ويشمل العذاب عذاب الدنيا وهو عذاب القتل مثل ما أصاب أبا جهل يوم بدر من ألم الجراح وهو في سكرات الموت، ثم من إهانة الإجهاز عليه عقب ذلك...
الحق تبارك وتعالى في قوله: {إن الذين لا يؤمنون بآيات الله} ينفي عن هؤلاء صفة الإيمان، فكيف يقول بعدها: {لا يهديهم الله}، أليسوا غير مؤمنين، وغير مهتدين؟ قلنا: إن الهداية نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهذه يستوي فيها المؤمن والكافر، فقد دل الله الجميع، وأوضح الطريق للجميع، ومنها قوله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى.. "17 "} (سورة فصلت)، أي: أرشدناهم ودللناهم. وهداية المعونة والتوفيق، وهذه لا تكون إلا للمؤمن، ومنها قوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم "17 "} (سورة محمد). إذن: معنى: {لا يهديهم الله}، أي: هداية معونة وتوفيق. ويصح أن نقول أيضاً: إن الجهة هنا منفكة إلى شيء آخر، فيكون المعنى: لا يهديهم إلى طريق الجنة، بل إلى طريق النار، كما قال تعالى: {إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا "168" إلا طريق جهنم.. "169 "} (سورة النساء)، بدليل قوله تعالى بعدها: {ولهم عذاب أليم}؛ ولأنه سبحانه في المقابل عندما تحدث عن المؤمنين قال: {ويدخلهم الجنة عرفها لهم" 6 "} (سورة محمد)، أي: هداهم لها وعرفهم طريقها...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأن اختيارهم للكفر، وابتعادهم عن خط الإيمان، لم يكن ناشئاً عن حالة جهل لا مجال معها لتحصيل المعرفة، بل كان ناشئاً من حالة عنادٍ وتمرّدٍ، بعد قيام الحجة عليهم، أو بعد توفر ما يمكن إقامة الحجة به، بحيث لو درسوه لاهتدوا إلى العقيدة الحقّة. ولذا، فإن الله يتركهم لأنفسهم، دون أن يتدخل لهدايتهم بشكل مباشر تكويناً؛ لأن حكمته اقتضت أن يكون الهدى والضلال تابعيْن للاختيار الإنساني. وسيعذبهم الله سبحانه على تمردهم وعنادهم؛ لأنهم يستحقون ذلك بعد قيام الحجة عليهم...