قوله تعالى : { أم عندهم الغيب } أي : علم ما غاب عنهم ، حتى علموا أن ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث باطل . وقال قتادة : هذا جواب لقولهم : نتربص به ريب المنون ، يقول : أعندهم علم الغيب حتى علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت قبلهم ؟ { فهم يكتبون } أي : يحكمون ، والكتاب : الحكم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين تخاصما إليه : " أقضي بينكما بكتاب الله " أي بحكم الله . وقال ابن عباس : معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به ؟
{ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ما كانوا يعلمونه من الغيوب ، فيكونون قد اطلعوا على ما لم يطلع عليه رسول الله ، فعارضوه وعاندوه بما عندهم من علم الغيب ؟ وقد علم أنهم الأمة الأمية ، الجهال الضالون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي عنده من العلم أعظم من غيره ، وأنبأه الله من علم الغيب على ما لم يطلع عليه أحدا من الخلق ، وهذا كله إلزام لهم بالطرق العقلية والنقلية على فساد قولهم ، وتصوير بطلانه بأحسن الطرق وأوضحها وأسلمها من الاعتراض .
ويعود يواجههم بحقيقة وجودهم ووضعهم في هذا الوجود . فهم عبيد لهم حدود . مكشوف لهم من هذا الوجود بقدر . محجوب عنهم ما وراءه ، مما يختص به صاحب هذا الوجود . فهنالك غيب من اختصاص الله يقف دونه العبيد ، لا علم لهم به ، لأنهم عبيد :
( أم عندهم الغيب فهم يكتبون ? ) . .
وهم يعلمون أن ليس عندهم الغيب ، وأن ليس لهم به علم ، وأن ليس لهم عليه قدرة . وأنهم لا يكتبون في سجل الغيب شيئا ، إنما يكتب الله فيه ما يريد ، مما يقدره للعبيد .
هذا نظير الإِضراب والاستفهام في قوله : { أن عندهم خزائن ربك } [ الطور : 37 ] ، أي بل أعندهم الغيب فهم يكتبون ما يجدونه فيه ويروونه للناس ؟ أي ما عندهم الغيب حتى يكتبوه ، فبعد أن رد عليهم إنكارهم الإِسلام بأنهم كالذين سألهم النبي صلى الله عليه وسلم أجراً على تبليغها أعقبه برد آخر بأنهم كالذين أطلعوا على أن عند الله ما يخالف ما ادَّعى الرسول صلى الله عليه وسلم إبلاغه عن الله فهم يكتبون ما أطلعوا عليه فيجدونه مخالفاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
قال قتادة : لما قالوا : { نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] قال الله تعالى : { أم عندهم الغيب } أي حتى علموا متى يموت محمد ، أو إلى ما يؤول إليه أمره فجعله راجعاً إلى قوله : { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } [ الطور : 30 ] . والوجه ما سمعتَه آنفاً .
والغيب هنا مصدر بمعنى الفاعل ، أي ما غاب عن علم الناس .
والتعريف في { الغيب } تعريف الجنس وكلمة ( عند ) تؤذن بمعنى الاختصاص والاستئثار ، أي استأثروا بمعرفة الغيب فعلموا ما لم يعلمه غيرهم .
والكتابة في قوله : { فهم يكتبون } يجوز أنها مستعارة للجزم الذي لا يقبل التخلف كقوله : { كتب ربكم على نفسه الرحمة } [ الأنعام : 54 ] لأن شأن الشيء الذي يراد تحقيقه والدوام عليه أن يكتب ويسجل ، كما قال الحارث بن حلزة :
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
فيكون الخبر في قوله : { فهم يكتبون } مستعملاً في معناه من إفادة النسبة الخبرية .
ويجوز أن تكون الكتابة على حقيقتها ، أي فهم يسجلون ما أطلعوا عليه من الغيب ليبقى معلوماً لمن يطلع عليه ويكون الخبر من قوله : { فهم يكتبون } مستعملاً في معنى الفرض والتقدير تبعاً لفرض قوله : { عندهم الغيب } ، ويكون من باب قوله تعالى : { أعنده علم الغيب فهو يرى } [ النجم : 35 ] وقوله : { وقال لأوتين مالاً وولداً أطلع الغيب } [ مريم : 77 ، 78 ] .
وحاصل المعنى : أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أم عندهم} يقول: أعندهم علم {الغيب} بأن الله لا يبعثهم، وأن ما يقول محمد غير كائن، ومعهم بذلك كتاب {فهم يكتبون} ما شاءوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"أمْ عِنْدَهُمُ الغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ "يقول تعالى ذكره: أم عندهم علم الغيب، فهم يكتبون ذلك للناس، فينبئونهم بما شاءوا، ويخبرونهم بما أرادوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أم عندهم الغيب فهم يكتبون} أي عندهم علم الغيب، فيعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوّله، بل ليس عندهم ذلك...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{أم عندهم الغيب} علم ما يؤول اليه أمر محمد ص {فهم يكتبون} يحكمون بأنه يموت فتستريح منه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما فيه حتى يقولوا لا نبعث، وإن بعثنا لم نعذب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{أم عندهم} علم {الغيب} فهم يبينون ذلك للناس سنناً وشرعاً يكتبونه وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم.
كأنه تعالى قال لهم: بم أطرحتم الشرع ومحاسنه، وقلتم ما قلتم بناء على اتباعكم الأوهام الفاسدة التي تسمونها المعقولات، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يطلب منكم أجرا وأنتم لا تعلمون فلا عذر لكم لأن العذر إما في الغرامة وإما في عدم الحاجة إلى ما جاء به ولا غرامة عليكم فيه ولا غنى لكم عنه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أم عندهم} أي خاصة بهم {الغيب} أي علمه {فهم يكتبون} أي يجددون للناس كتابة جميع ما غاب عنهم مما ينفعهم ويضرهم حتى يحسدونك فيما شاركتهم به منه، فيردوه لذلك، وينسبوك إلى ما نسبوك إليه مما يعلم كل أحد ترافعك عنه وبعدك منه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(أم عندهم الغيب فهم يكتبون؟).. وهم يعلمون أن ليس عندهم الغيب، وأن ليس لهم به علم، وأن ليس لهم عليه قدرة. وأنهم لا يكتبون في سجل الغيب شيئا، إنما يكتب الله فيه ما يريد، مما يقدره للعبيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أي بل أعندهم الغيب فهم يكتبون ما يجدونه فيه ويروونه للناس؟ أي ما عندهم الغيب حتى يكتبوه...
أي فهم يسجلون ما أطلعوا عليه من الغيب ليبقى معلوماً لمن يطلع عليه ويكون الخبر من قوله: {فهم يكتبون} مستعملاً في معنى الفرض والتقدير...
وحاصل المعنى: أنهم لا قبل لهم بإنكار ما جحدوه ولا بإثبات ما أثبتوه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويحتمل أيضاً أنّ القرآن يقول إذا كنتم تدّعون معرفة الأسرار الغيبية وأحكام الله ولستم بحاجة إلى القرآن ودين محمّد فهذا كذب عظيم.