{ لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ، الذين خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم يوم القيامة وفاتهم النعيم المقيم ، وحصلوا على العذاب الأليم .
وهذا بخلاف من أكره على الكفر وأجبر عليه ، وقلبه مطمئن بالإيمان ؛ راغب فيه فإنه لا حرج عليه ولا إثم ، ويجوز له النطق بكلمة الكفر عند الإكراه عليها .
ودل ذلك على أن كلام المكره على الطلاق أو العتاق أو البيع أو الشراء أو سائر العقود أنه لا عبرة به ، ولا يترتب عليه حكم شرعي ؛ لأنه إذا لم يعاقب على كلمة الكفر إذا أكره عليها ، فغيرها من باب أولى وأحرى .
ثم ختم - سبحانه - الآيات الكريمة بالحكم العادل عليهم فقال : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون } .
أي : لاشك ولا محالة في أن هؤلاء الذين اختاروا الكفر على الإِيمان سيكونون يوم القيامة من القوم الخاسرين ؛ لأنهم لم يقدموا في دنياهم ما ينفعهم في أخراهم .
وكلمة : { لا جرم } ، قد وردت في القرآن في خمسة مواضع ، متلوة في كل موضع بأن واسمها ، وليس بعدها فعل . وجمهور النحاة على أن هذه الكلمة مركبة من : " لا " و " جرم " ، تركيب خمسة عشر ، ومعناها بعد التركيب معنى الفعل : حق ، أو ثبت ، أو ما يشبه ذلك ، أي : حق وثبت كونهم في الآخرة من الخاسرين .
جملة { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } واقعة موقع النتيجة لما قبلها ، لأن ما قبلها صار كالدليل على مضمونها ، ولذلك افتتحت بكلمة نفي الشكّ .
فإن { لا جَرم } بمعنى ( لا محالة ) أو ( لا بُد ) . وقد تقدّم آنفاً في هذه السورة عند قوله تعالى : { لا جرم أن الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون } وتقدم بسط تفسيرها عند قوله تعالى : { لا جرم أنّهم في الآخرة هم الأخسرون } في سورة هود ( 22 ) .
والمعنى : أن خسارتهم هي الخسارة ، لأنهم أضاعوا النعيم إضاعة أبدية .
ويجري هذا المعنى على كلا الوجهين المتقدّمين في ما صْدق ( مَن ) من قوله : { من كفر بالله } [ سورة النحل : 106 ] الآية .
ووقع في سورة هود ( 22 ) { هم الأخسرون } ووقع هنا { هم الخاسرون } لأن آية سورة هود ( 21 ) تقدّمها { أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } ، فكان المقصود بيان أن خسارتهم في الآخرة أشدّ من خسارتهم في الدنيا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا جرم}، قسما حقا، {أنهم في الآخرة هم الخاسرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{لا جَرَمَ أنّهُمْ فِي الاَخِرَةِ هُمُ الخاسرُونَ}، الهالكون، الذين غَبَنوا أنفسهم حظوظها من كرامة الله تعالى...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال الحسن: إنهم، والله، خسروا الجنة ورحمة الله، خسروا أهلهم ومنزلهم الذي كان لهم في الجنة، وخسروا أنفسهم حين قذفوها في النار. وقال أبو بكر الأصم: خسروا النعم الدائمة الباقية بالزائلة الفانية، وخسروا أنفسهم حين قُتِلُوا، وأسروا في الدنيا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"لا جرم أنهم"، معناه: حق لهم، "أنهم في الآخرة هم الخاسرون"، الذين خسروا صفقتهم لفوات الثواب وحصول العقاب...
اعلم أن الموجب لهذا الخسران هو أن الله تعالى وصفهم في الآيات المتقدمة بصفات ستة:
الصفة الأولى: أنهم استوجبوا غضب الله.
والصفة الثانية: أنهم استحقوا العذاب الأليم.
والصفة الثالثة: أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.
والصفة الرابعة: أنه تعالى حرمهم من الهداية.
والصفة الخامسة: أنه تعالى طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
والصفة السادسة: أنه جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة فلا جرم لا يسعون في دفعها، فثبت أنه حصل في حقهم هذه الصفات الستة التي كل واحد منها من أعظم الأحوال المانعة عن الفوز بالخيرات والسعادات، ومعلوم أنه تعالى إنما أدخل الإنسان الدنيا ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعاته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة عظم خسرانه، فلهذا السبب قال: {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} أي هم الخاسرون لا غيرهم، والمقصود التنبيه على عظم خسرانهم، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أتبع ذلك جزاءهم عليه فقال تعالى: {لا جرم}، أي: لا شك {أنهم في الآخرة هم}، أي: خاصة، {الخاسرون}، أي: أكمل الناس خسارة؛ لأنهم خسروا رأس المال وهو نفوسهم، فلم يكن لهم مرجع يرجعون إليه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} واقعة موقع النتيجة لما قبلها، لأن ما قبلها صار كالدليل على مضمونها، ولذلك افتتحت بكلمة نفي الشكّ. فإن {لا جَرم} بمعنى (لا محالة) أو (لا بُد)...
والمعنى: أن خسارتهم هي الخسارة، لأنهم أضاعوا النعيم إضاعة أبدية...
والمتتبع للآيات السابقة يجد فيها هذه الحيثيات، بداية من قولهم عن رسول الله: {إنما أنت مفترٍ}، وقولهم: {إنما يعلمه بشر}، وعدم إيمانهم بآيات الله، وكونهم كاذبين مفترين على الله، واطمئنانهم بالكفر، وانشراح صدورهم به، واستحبابهم الحياة الدنيا على الآخرة. هذه كلها حيثيات وأسباب أوجبت لهم الخسران في الآخرة يوم تصفى الحسابات، وتنكشف الأرباح والخسائر، وكيف لا يكون عاقبته خسراناً من اقتراف كل هذه الجرائم؟!.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأنهم لم يأخذوا بأسباب الربح في الدنيا، وأخذوا بأسباب الخسارة، فواجهوا نتائجها الخاسرة من مواقع الغفلة المطبقة على الحواس والعقول...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.