{ إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } ففيه الإقرار بتوحيد الربوبية ، بأن الله هو المربي جميع خلقه بأنواع النعم الظاهرة والباطنة ، والإقرار بتوحيد العبودية ، بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له ، وإخبار عيسى عليه السلام أنه عبد من عباد الله ، ليس كما قال فيه النصارى : " إنه ابن الله أو ثالث ثلاثة " والإخبار بأن هذا المذكور صراط مستقيم ، موصل إلى الله وإلى جنته .
ثم حكى - سبحانه - ما قاله عيسى - عليه السلام - لقومه ، عندما بعثه الله إليهم فقال : { وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة } .
والبينات : جمع بينة . وهى صفة لموصوف محذوف ، والمراد بها : المعجزات التى أيد الله - تعالى - بها عيسى - عليه السلام - .
والمراد بالحكمة : التشريعات والتكاليف والمواعظ التى أرشدهم إليها ، عن طريق الكتاب الذىأنزله الله تعالى إليه ، وهو الإِنجيل .
أى : وحين جاء عيسى - عليه السلام - إلى قومه ، قال لهم على سبيل النصح والإِرشاد : يا قوم لقد جئتكم بالمعجزات البينات الواضحة التى تشهد بصدقى وجئتكم بالإِنجيل المشتمل على ما تقتضيه الحكمة الإِلهية من آداب وتشريعات ومواعظ .
وقوله : { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } متعلق بمحذوف والتقدير :
قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ، وجئتكم - أيضا - لأبين لكم ولأصحح لكم بعض الأمور التى تختلفون فيها .
وقال - سبحانه - { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } ولم يقل لكم كل الذى تختلفون فيه ، للإِشعار بالرحمة بهم وبالستر عليهم ، حيث بين البعض وترك البعض الآخر ، لأنه لا ضرورة تدعو إلى بيانه .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : هلا بين لهم كل الذى يختلفون فيه ؟ قلت : كانوا يختلفون فى الديانات ، وما يتعلق بالتكليف ، وفيهما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه ، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم . .
وقوله - تعالى - : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم ، فاتقوا الله - تعالى - بأنه تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وبأن تطيعونى فى كل ما آمركم به أو أنهاكم عنه .
وإن الله - تعالى - هو ربى وربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ، وهذا الذى آمركم به أو أنهاكم عنه ، هو الطريق القويم ، الذى يوصلكم إلى السعادة الدنيوية والأخروية .
وجملة { إن الله هو ربّي وربّكم } تعليل لجملة { فاتقوا الله وأطيعون } لأنه إذا ثبت تفرده بالربوبية توجه الأمر بعبادته إذ لا يَخاف الله إلا مَن اعترف بربوبيته وانفرادِه بها .
وضمير الفصل أفاد القصر ، أي الله ربّي لا غيره . وهذا إعلان بالوحدانية وإن كان القوم الذين أرسل إليهم عيسى موحِّدين ، لكن قد ظهرت بدعةٌ في بعض فرقهم الذين قالوا : عزيرُ ابنُ الله . وتأكيد الجملة بِ { إنَّ } لمزيد الاهتمام بالخبر فإن المخاطبين غير منكرين ذلك .
وتقديم نفسه على قومه في قوله : { ربّي وربّكم } لقصد سدّ ذرائع الغلوّ في تقديس عيسى ، وذلك من معجزاته لأن الله علم أنه ستغلو فيه فِرق من أتباعه فيزعمون بنوَّتَه من الله على الحقيقة ، ويضلّون بكلمات الإنجيل التي يَقول فيها عيسى : أبي ، مريداً به الله تعالى .
وفرع على إثبات التوحيد لله الأمر بعبادته بقوله : { فاعبدوه } فإن المنفرد بالإلهية حقيق بأن يعبد .
والإشارة ب { هذا صراط مستقيم } إلى مضمون قوله : { فاتقوا الله وأطيعون } ، أي هذا طريق الوصول إلى الفوز عن بصيرة ودون تردد ، كما أن الصراط المستقيم لا ينبهم السير فيه على السائر .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"إنّ اللّهَ هُوَ رَبّي وَرَبّكُم فاعْبُدُوهُ" يقول: إن الله الذي يستوجب علينا إفراده بالألوهية وإخلاص الطاعة له، ربي وربكم جميعا، فاعبدوه وحده، لا تشركوا معه في عبادته شيئا، فإنه لا يصلح، ولا ينبغي أن يُعبد شيء سواه.
وقوله: "هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ "يقول: هذا الذي أمرتكم به من اتقاء الله وطاعتي، وإفراد الله بالألوهة، هو الطريق المستقيم، وهو دين الله الذي لا يقبل من أحد من عباده غيره.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ذكر هذا ليعلموا أنه، وإن عظُم قدره عند الله، وجلّت منزلته عنده، فإنه لم يخرج عن العبودة، وإنه عند الله ليس بإله، ولا ابن له على ما زعم أولئك الكفرة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أي عبادة الله صراط مستقيم، وما سواه معوج لا يؤدي سالكه إلى الحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أمرهم بطاعته، علل ذلك بما أزال تهمته ما يطاع فيه، فقال مؤكداً لما في أعمالهم من المجاملة المؤذنة بالتكذيب: {إن الله} أي الذي اختص بالجلال والجمال، فكان أهلاً لأن يتقى {هو} أي وحده {ربي وربكم} نحن في العبودية بإحسانه إلينا وسيادته لنا على حد سواء، فلولا أنه أرسلني لما خصني عنكم بهذه الآيات البينات {فاعبدوه} بما آمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباع ما ظهر على يدي فصار هو الآمر لا أنا.
ولما كان دعاؤه إلى الله بما لا حظ له عليه الصلاة والسلام فيه دل قطعياً على صدقه ولا سيما وقد اقترن بالمعجزات مع كونه في نفسه في غاية الخفية لا يستطاع بعضه بوجه، أشار إلى ذلك كله بقوله على وجه الاستنتاج مما مضى مرغباً فيه دالاً على اقتضائه الطاعة {هذا} أي الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه {صراط} أي طريق واسع جداً واضح {مستقيم} لا عوج له.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فيه الإقرار بتوحيد الربوبية، بأن الله هو المربي جميع خلقه بأنواع النعم الظاهرة والباطنة، والإقرار بتوحيد العبودية، بالأمر بعبادة الله وحده لا شريك له.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
جهر بكلمة التوحيد خالصة لا مواربة فيها ولا لبس ولا غموض: (إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه).. ولم يقل: إنه إله، ولم يقل: إنه ابن الله. ولم يشر من قريب أو بعيد إلى صلة له بربه غير صلة العبودية من جانبه والربوبية من جانب الله رب الجميع.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الإشارة ب {هذا صراط مستقيم} إلى مضمون قوله: {فاتقوا الله وأطيعون}، أي هذا طريق الوصول إلى الفوز عن بصيرة ودون تردد، كما أن الصراط المستقيم لا ينبهم السير فيه على السائر...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الملفت للانتباه تكرار كلمة «الرب» مرّتين في هذه الآية، مرّة في حقّه، وأُخرى في حق الناس، ليوضح للناس أنّي وإيّاكم متساوون، وربّي وربّكم واحد. وأنا مثلكم محتاج في كل وجودي إلى الخالق المدبر، فهو مالكي ودليلي. وللتأكيد أكثر يضيف:
(فاعبدوه) إذ لا يستحق العبادة غيره، ولا تليق إلاّ به، فهو الرب والكل مربوبون، وهو المالك والكل مملوكون. ثمّ يؤكّد كلامه بجملة أُخرى حتى لا تبقى لمتذرع ذريعة فيقول: (هذا صراط مستقيم). نعم، إنّ الصراط المستقيم هو طريق العبودية لله سبحانه، ذلك الطريق الذي لا انحراف فيه ولا اعوجاج، كما جاء في الآية