ثم قال - تعالى - : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } أى : أن هذه الأصنام فضلا عن كونها مخلوقة ، فإنها لا تستطيع أن تجلب لعابديها نصرا على أعدائهم ، بل إنها لا تستطيع أن تدفع عن نفسها شراً ، ومن هذه صفته كيف يعبد من دون الله ؟ قال - تعالى - { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب }
ولما كان الحديث عن قصة الانحراف في النفس - ذلك المتمثل في قصة الزوجين - هو حديث كل شرك ! والمقصود به هو تنبيه أولئك الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، إلى سخف ما هم عليه من الشرك ، واتخاذ تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً بل هي تخلق ، ولا تنصر عبادها بل لا تملك لأنفسها نصرا ، سواء أكانت من البشر أم من غيرهم ، فهي كلها لا تخلق ولا تنصر - لما كان هذا هو اتجاه السياق القرآني ، فإنه ينتقل من القصة ومن أسلوب الحكاية في الفقرة السابقة ، إلى مواجهة مشركي العرب وإلى أسلوب الخطاب انتقالاً مباشراً ، كأنه امتداد للحديث السابق عليه عن تلك الآلهة !
قوله تعالى : { ولا يستطيعون } الآية ، هذه تخرج على تأويل من قال :«إن المراد آدم وحواء والشمس » على ما تقدم ، ولكن بقلق وتعسف من المتأول في المعنى ، وإنما تتسق هذه الآيات ويروق نظمها ويتناصر معناها على التأويل الآخر ، والمعنى ولا ينصرون أنفسهم من أمر الله وإرادته ، ومن لا يدفع عن نفسه فأحرى أن لا يدفع عن غيره .
والضمير المجرور باللام في { لهم نَصراً } عائد إلى المشركين ، لأن المجرور باللام بعد فعل الاستطاعة ونحوه هو الذي لأجله يقع الفعل مثل { لا يَمْلكون لكم رزقاً } [ العنكبوت : 17 ] .
وجملة : { ولا يستطيعون لهم نصراً } عطف على جملة : { مالا يخلق شيئاً } فتكون صلة ثانية .
والقول في الفعلين من { لا يستطيعون ولا أنفسهم ينصرون } كالقول في { ما لاَ يَخلق شيئاً } .
وتقديم المفعول في { ولا أنفسهم ينصرون } للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم ، لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لأن من يقصّر في نصر غيره لا يقصِّر في نصر نفسه لو قدر .
والمعنى : أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم إن رام أحد الاعتداء عليها .
والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم ، إذ كان النصر أشد مرغوب لهم ، لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وتراث ، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهةً لعلهم ينصرون ، لا يستطيعون نصرهم } [ يس : 74 ، 75 ] وقال تعالى : { واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم } [ مريم : 81 ، 82 ] ، قال أبو سفيان يوم أُحد « أعْلُ هبل » وقال أيضاً « لنا العُزى ولا عُزى لكم وأن الله أعلم المسلمين بذلك تعريضاً بالبشارة بأن المشركين سيُغلبون قال { قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 12 ] وأنهم سيمحقون الأصنام ولا يستطيع أحد الذب عنها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولا يستطيعون لهم نصرا}، يقول: لا تقدر الآلهة منع السوء إذا نزل بمن يعبدها من كفار مكة، {ولا أنفسهم ينصرون} يقول: ولا تمنع الآلهة من أراد بها سوءا، فكيف تعبدون من هذه منزلته وتتركون عبادة ربكم؟...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أيشرك هؤلاء المشركون في عبادة الله ما لا يخلق شيئا من خلق الله، ولا يستطيع أن ينصرهم إن أراد الله بهم سوءا أو أحلّ بهم عقوبة، ولا هو قادر إن أراد به سوءا نصر نفسه ولا دفع ضرّ عنها، وإنما العابد يعبد ما يعبده لاجتلاب نفع منه أو لدفع ضرّ منه عن نفسه، وآلهتهم التي يعبدونها ويشركونها في عبادة الله لا تنفعهم ولا تضرّهم، بل لا تجتلب إلى نفسها نفعا ولا تدفع عنها ضرّا، فهي من نفع غير أنفسها أو دفع الضرّ عنها أبعد. يعجّب تبارك وتعالى خلقه من عظيم خطأ هؤلاء الذين يشركون في عبادتهم الله غيره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ} لعبدتهم {نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث، بل عبدتهم هم الذي يدفعون عنهم ويحامون عليهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والمعنى ولا ينصرون أنفسهم من أمر الله وإرادته، ومن لا يدفع عن نفسه فأحرى أن لا يدفع عن غيره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولا يستطيعون لهم} أي للمشركين الذين يعبدونها {نصراً} وهو المعونة على العدو، ولعله عبر بصيغة العاقل إشارة إلى أنهم لو كانوا يعقلون، وكانوا بهذه الصفات الخسيسة ما أهلوهم لأن يكونوا أحبابهم فضلاً عن أن يجعلوهم أربابهم. ولما كان من لا ينصر غيره قد ينصر نفسه، نفي ذلك بقوله: {ولا أنفسهم ينصرون} أي في وقت من الأوقات عندما يصيبهم بسوء، بل عبدتهم يدافعون عنهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولما كان الحديث عن قصة الانحراف في النفس -ذلك المتمثل في قصة الزوجين- هو حديث كل شرك! والمقصود به هو تنبيه أولئك الذين كانوا يخاطبون بهذا القرآن أول مرة، إلى سخف ما هم عليه من الشرك، واتخاذ تلك الآلهة التي لا تخلق شيئاً بل هي تخلق، ولا تنصر عبادها بل لا تملك لأنفسها نصرا، سواء أكانت من البشر أم من غيرهم، فهي كلها لا تخلق ولا تنصر -لما كان هذا هو اتجاه السياق القرآني، فإنه ينتقل من القصة ومن أسلوب الحكاية في الفقرة السابقة، إلى مواجهة مشركي العرب وإلى أسلوب الخطاب انتقالاً مباشراً، كأنه امتداد للحديث السابق عليه عن تلك الآلهة!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والضمير المجرور باللام في {لهم نَصراً} عائد إلى المشركين، لأن المجرور باللام بعد فعل الاستطاعة ونحوه هو الذي لأجله يقع الفعل مثل {لا يَمْلكون لكم رزقاً} [العنكبوت: 17].
وجملة: {ولا يستطيعون لهم نصراً} عطف على جملة: {مالا يخلق شيئاً} فتكون صلة ثانية.
والقول في الفعلين من {لا يستطيعون ولا أنفسهم ينصرون} كالقول في {ما لاَ يَخلق شيئاً}.
وتقديم المفعول في {ولا أنفسهم ينصرون} للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم، لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لأن من يقصّر في نصر غيره لا يقصِّر في نصر نفسه لو قدر.
والمعنى: أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم إن رام أحد الاعتداء عليها.
والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم، إذ كان النصر أشد مرغوب لهم، لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وتراث، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً لعلهم ينصرون، لا يستطيعون نصرهم} [يس: 74، 75] وقال تعالى: {واتخذوا من دون الله آلهةً ليكونوا لهم عزاً كلا سيكفرون بعبادتهم} [مريم: 81، 82]، قال أبو سفيان يوم أُحد « أعْلُ هبل» وقال أيضاً « لنا العُزى ولا عُزى لكم وأن الله أعلم المسلمين بذلك تعريضاً بالبشارة بأن المشركين سيُغلبون قال {قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد} [آل عمران: 12] وأنهم سيمحقون الأصنام ولا يستطيع أحد الذب عنها.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن مقياس الألوهية هو الخلق والتكوين، فإن كان الله هو الخالق المكون فهو المالك لما خلق وكون، وهو وحده المستحق للعبادة، سبحانه وتعالى، والله تعالى مالك السماوات والأرض وخالقهما، وخالق الإنسان فكيف يعبد غيره؟!؛ ولذا قال تعالى مستنكرا ما عليه الضالون: {أيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}، الاستفهام إنكاري لإنكار الواقع بمعنى التوبيخ، أي أتشركون بالله في العبادة ما لا يخلق شيئا وهو ذاته مخلوق، وننبه هنا إلى ثلاثة أمور:
أولها – أنه هنا ذكر شركهم ولم يذكر من يشاركونه، وهو الله، تساميا لاسم الله تعالى عن أن يذكر مقارنا بالأوثان.
ثانيها – أنه – سبحانه وتعالى – ذكر أنهم لا يخلقون. والله خالق كل شيء وهم مخلوقون. والله خالق وليس بمخلوق.
ثالثها – أنه لا تضر ولا تنفع ولا ينصرون أحدا، ولا ينصرون أنفسهم، والله تعالى غالب على كل شيء ينفع ويضر وينصر من ينصره، إنهم لو كانت لهم عقول ما أشركوا مع الله أحدا أو شيئا من هذه الأوثان أو غيرها.
وكل مقدمات هذه الفارقات ثابتة بالبداهة لله جلت قدرته، والأوثان ثابت كل ما سلب عنهم. قال الله تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب (73) ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز (74)} (الحج).
وقد كان إبراهيم – عليه السلام – يقول لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42)} (مريم)، وجاء إبراهيم وكسر الأوثان جذاذا إلا كبيرا لهم فلم يستطيعوا نصرا، قال تعالى في ذلك: {فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58)} (الأنبياء).