وقوله - تعالى - { وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً . وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } بيان لنعمة أخرى من نعمه التى لا تحصى ، والتى تدل على كمال قدرته . أى : وجعلنا - بقدرتنا ورحمتنا - الليل كاللباس الساتر لكم ، فهو يلفكم بظلمته ، كما يلف اللباس صاحبه
. كما أننا جعلنا النهار وقت معاشكم ، لكى تحصلوا فيه ما أنتم فى حاجة إلى تحصيله من أرزاق ومنافع .
ووصف - سبحانه - الليل بأنه كاللباس ، والنهار بأنه وقت المعاش ، لأن الشأن فيهما كذلك ، إذ الليل هو وقت الراحة والسكون والاختلاء . . والنهار هو وقت السعى والحركة والانتشار .
من إتمام الاستدلال الذي قبله وما فيه من المنة لأن كون الليل لباساً حالة مهيئة لتكيف النوم ومُعينة على هنائه والانتفاع به لأن الليل ظلمة عارضة في الجو من مزايلة ضوء الشمس عن جزء من كرة الأرض وبتلك الظلمة تحتجب المرئيات عن الأبصار فيعسر المشي والعمل والشغل وينحط النشاط فتتهيأ الأعصاب للخمول ثم يغشاها النوم فيحصل السبات بهذه المقدمات العجيبة ، فلا جرم كان نظام الليل آية على انفراد الله تعالى بالخلق وبديع تقديره .
وكان دليلاً على أن إعادة الأجسام بعد الفناء غير متعذرة عليه تعالى فلو تأمل المنكرون فيها لعلموا أن الله قادر على البعث فَلَمَا كذبوا خَبَر الرسول صلى الله عليه وسلم به ، وفي ذلك امتنان عليهم بهذا النظام الذي فيه اللطف بهم وراحة حياتهم لو قدَروه حق قدره لشكروا وما أشركوا ، فكان تذكر حالة الليل سريع الخطور بالأذهان عند ذكر حالة النوم فكان ذكر النوم مناسبة للانتقال إلى الاستدلال بحالة الليل على حسب أفهام السامعين .
والمعنيّ من جعل الليل لباساً يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس .
فيجوز أن يكون اللباس محمولاً على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه ، أي ما يلبسه الإِنسان من الثياب فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ ، أي جعلنا الليل للإِنسان كاللباس له ، فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية . وتحته ثلاثة معانٍ :
أحدها : أن الليل ساتر للإِنسان كما يستره اللباس ، فالإِنسان في الليل يختلي بشؤونه التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار ، وفي ذلك تعريض بإبطال أصل من أصول الدهريين أن الليل رب الظّلمة وهو معتقد المجوس وهم الذين يعتقدون أن المخلوقات كلها مصنوعة من أصلين ، أي إلهين : إله النور وهو صانع الخير ، وإله الظلمة وهو صانع الشر . ويقال لهم : الثنوية لأنهم أثبتوا إلهين إثنين ، وهم فِرق مختلفة المذاهب في تقرير كيفية حدوث العالم عن ذيْنك الأصلين ، وأشهر هذه الفرق فرقة تسمى المَانوية نسبة إلى رجل يقال له : ( مانِي ) فارسي قبل الإسلام ، وفرقة تسمى مزدكية نسبة إلى رجل يقال له : ( مَزْدَك ) فارسي قبل الإسلام . وقد أخذ أبو الطيب معنى هذا التعريض في قوله :
وكم لظلام الليل عندك من يد *** تُخَبِّر أن المانَوِيَّةَ تكذِبُ
المعنى الثاني : من معنيي وجه الشبه باللباس : أنه المشابهة في الرفق باللاَّبس والملاءمة لراحته ، فلما كان الليل راحة للإِنسان وكان محيطاً بجميع حواسه وأعصابه شُبه باللباس في ذلك . ونُسب مُجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير والسُّدي وقتادة إذ فسروا { سباتاً } [ النبأ : 9 ] سكَناً .
المعنى الثالث : أن وجه شبه باللباس هو الوقاية ، فاللَّيل يقي الإِنسان من الأخطار والاعتداء عليه ، فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحاً ولذلك إذا غِير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله : يا صَبَاحَاه . ويقال : صَبَّحَهم العَدوُّ . وكانوا إذا أقاموا حرساً على الرُّبى نَاظُورَةَ على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهاراً فإذا أظلم الليل نزل الحَرس ، كما قال لبيد يذكر ذلك ويذكرُ فرسه :
حَتَّى إذا أُلْقَتْ يداً في كَافــر *** وأجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُور ظلامُها
أسْهَلَتُ وانْتَصَبَتْ كجِذْع منيفة *** جَرْدَاءَ يَحْصَر دونها جُرَّامُها
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني سكنا... فألبسكم ظلمته على خير وشر كثير...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَجَعَلْنا اللّيْلَ لِباسا" يقول تعالى ذكره: وجعلنا الليل لكم غِشاء يتغشاكم سواده، وتغطيكم ظلمته، كما يغطي الثوبُ لابسَه، لتسكنوا فيه عن التصرّف لما كنتم تتصرّفون له نهارا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يستركم عن العيون إذا أردتم هرباً من عدوّ، أو بياتاً له، أو إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه من كثير من الأمور...
وأيضا فكما أن الإنسان بسبب اللباس يزداد جماله وتتكامل قوته ويندفع عنه أذى الحر والبرد، فكذا لباس الليل بسبب ما يحصل فيه من النوم يزيد في جمال الإنسان، وفي طراوة أعضائه وفي تكامل قواه الحسية والحركية، ويندفع عنه أذى التعب الجسماني، وأذى الأفكار الموحشة النفسانية، فإن المريض إذا نام بالليل وجد الخفة العظيمة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
من إتمام الاستدلال الذي قبله وما فيه من المنة لأن كون الليل لباساً حالة مهيئة لتكيف النوم ومُعينة على هنائه والانتفاع به لأن الليل ظلمة عارضة في الجو من مزايلة ضوء الشمس عن جزء من كرة الأرض وبتلك الظلمة تحتجب المرئيات عن الأبصار فيعسر المشي والعمل والشغل وينحط النشاط فتتهيأ الأعصاب للخمول ثم يغشاها النوم فيحصل السبات بهذه المقدمات العجيبة، فلا جرم كان نظام الليل آية على انفراد الله تعالى بالخلق وبديع تقديره.
وكان دليلاً على أن إعادة الأجسام بعد الفناء غير متعذرة عليه تعالى، فلو تأمل المنكرون فيها لعلموا أن الله قادر على البعث فَلَمَا كذبوا خَبَر الرسول صلى الله عليه وسلم به، وفي ذلك امتنان عليهم بهذا النظام الذي فيه اللطف بهم وراحة حياتهم لو قدَروه حق قدره لشكروا وما أشركوا، فكان تذكر حالة الليل سريع الخطور بالأذهان عند ذكر حالة النوم فكان ذكر النوم مناسبة للانتقال إلى الاستدلال بحالة الليل على حسب أفهام السامعين.
والمعنيّ من جعل الليل لباساً يحوم حول وصف حالة خاصة بالليل عبر عنها باللباس.
فيجوز أن يكون اللباس محمولاً على معنى الاسم وهو المشهور في إطلاقه، أي ما يلبسه الإِنسان من الثياب فيكون وصف الليل به على تقدير كاف التشبيه على طريقة التشبيه البليغ، أي جعلنا الليل للإِنسان كاللباس له، فيجوز أن يكون وجه الشبه هو التغشية. وتحته ثلاثة معانٍ:
أحدها: أن الليل ساتر للإِنسان كما يستره اللباس، فالإِنسان في الليل يختلي بشؤونه التي لا يرتكبها في النهار لأنه لا يحب أن تراها الأبصار...
المعنى الثاني: من معنيي وجه الشبه باللباس: أنه المشابهة في الرفق باللاَّبس والملاءمة لراحته، فلما كان الليل راحة للإِنسان وكان محيطاً بجميع حواسه وأعصابه شُبه باللباس في ذلك. ونُسب مُجمل هذا المعنى إلى سعيد بن جبير والسُّدي وقتادة إذ فسروا {سباتاً} [النبأ: 9] سكَناً.
المعنى الثالث: أن وجه شبه باللباس هو الوقاية، فاللَّيل يقي الإِنسان من الأخطار والاعتداء عليه، فكان العرب لا يغير بعضهم على بعض في الليل وإنما تقع الغارة صباحاً ولذلك إذا غِير عليهم يصرخ الرجل بقومه بقوله: يا صَبَاحَاه. ويقال: صَبَّحَهم العَدوُّ. وكانوا إذا أقاموا حرساً على الرُّبى نَاظُورَةَ على ما عسى أن يطرقهم من الأعداء يقيمونه نهاراً فإذا أظلم الليل نزل الحَرس.