ثم يحكى لنا القرآن بعد ذلك موقف السحرة بعد أن رأوا بأعينهم أن ما فعله موسى - عليه السلام - ليس من قبيل السحر فقال : { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ } أى : خبروا سجدا ، كأنما - كما قال الزمخشرى - قد القاهم ملق لشدة خرورهم أو لم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا فكأنهم ألقوا .
والمراد أن ظهور بطلان سحرهم ، وإدراكهم بأن موسى على الحق ، قد حملهم على السجود لله - تعالى - وأن نور الحق قد بهرهم وجعلهم يسارعون إلى الإيمان حتى لكأن أحدا قد دفعهم إليه دفعا ، وألقاهم إليه إلقاء .
ولكن المفاجأة لم تختم بعد . والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة أخرى . . مفاجأة كبرى . .
( وألقى السحرة ساجدين . قالوا : آمنا برب العالمين . رب موسى وهارون ) . .
إنها صولة الحق في الضمائر . ونور الحق في المشاعر ، ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقي الحق والنور واليقين . . إن السحرة هم أعلم الناس بحقيقة فنهم ، ومدى ما يمكن أن يبلغ إليه . وهم أعرف الناس بالذي جاء به موسى إن كان من السحر والبشر ، أم من القدرة التي وراء مقدور البشر والسحر . والعالم في فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة فيه حين تتكشف له ، لأنه أقرب إدراكاً لهذه الحقيقة ، ممن لا يعرفون في هذا الفن إلا القشور . .
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، في ذلك الموقف العظيم ، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل ، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه ، { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أي : تأكل { مَا يَأْفِكُونَ } أي : ما يلقونه ويوهمون أنه حق ، وهو باطل .
قال ابن عباس : فجعلت لا تَمُرّ بشيء{[12013]} من حبالهم ولا من خُشُبهم{[12014]} إلا التقمته ، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء ، وليس هذا بسحر ، فخروا سجدا .
وقوله تعالى : { وألقي السحرة ساجدين } الآيات ، لما رأى السحرة من عظيم القدرة وما تيقنوا به نبوة موسى آمنوا بقلوبهم وانضاف إلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفزع من قدرة الله تعالى فخروا سجداً لله تعالى متطارحين وآمنوا نطقاً بألسنتهم ، وتبينهم الرب بذكر موسى وهارون زوال عن ربوبية فرعون وما كان يتوهم فيه الجهال من أنه رب الناس ، وهارون أخو موسى أسن منه بثلاث سنين .
عَطْف على { فغُلبوا وانقَلبوا } [ الأعراف : 119 ] ، فهو في حيز فاء التعقيب ، أي : حصل ذلك كله عقب تلقف العصا ما يأفكون ، أي : بدون مهلة ، وتعقيب كل شيء بحسبه ، فسجود السحرة متأخر عن مصيرهم صاغرين ، ولكنه متأخر بزمن قليل وهو زمن انقداح الدليل على صدق موسى في نفوسهم ، فإنهم كانوا أعلم الناس بالسحر فلا يخفى عليهم ما هو خارج عن الأعمال السحرية ، ولذلك لما رأوا تلقف عصا موسى لحبالهم وعصيهم جزموا بأن ذلك خارج عن طوق الساحر ، فعلموا أنه تأييد من الله لموسى وأيقنوا أن ما دعاهم إليه موسى حق ، فلذلك سجدوا ، وكان هذا خاصاً بهم دون بقية الحاضرين ، فلذلك جيء بالاسم الظاهر دون الضمير لئلا يلتبس بالضمير الذي قبله الذي هو شامل للسحرة وغيرهم .
والإلقاء : مستعمل في سرعة الهُوِي إلى الأرض ، أي : لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد .
وبُني فعل الإلقاء للمجهول لظهور الفاعل ، وهو أنفسُهم ، والتقدير : وألقَوْا أنفسهم على الأرض .
و { ساجدين } حال ، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم ، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذٍ بظهور معجزة موسى عليه السلام والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وألقي السحرة عندما عاينوا من عظيم قدرة الله، ساقطين على وجوههم، سجدا لربهم، يقولون: آمنا بربّ العالمين، يقولون صدّقنا بما جاءنا به موسى، وأن الذي علينا عبادته هو الذي يملك الجنّ والإنس وجميع الأشياء، وغير ذلك، ويدبّر ذلك كله، رب موسى وهارون، لا فرعونُ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... {وألقي} أي لسرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} لله حيث عرفوا أنّ ذلك أمر سماوي وليس سحراً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وقوله تعالى "وألقى السحرة ساجدين "إنما جاء على مالم يسم فاعله لأمرين: أحدهما -أنه بمعنى ألقاهم ما رأوا من عظيم آيات الله بأن دعاهم إلى السجود لله والخضوع له. الثاني- أنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين، فكأن ملقيا ألقاهم. ومعنى الآية: البيان عن حال من تيقن البرهان، فظهر منه الإذعان للحق والخضوع بالسجود لله تعالى، ولم يكن ممن تعامى عن الصواب وتعاشى عن طريق الرشاد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله تعالى: {وألقي السحرة ساجدين} الآيات، لما رأى السحرة من عظيم القدرة وما تيقنوا به نبوة موسى آمنوا بقلوبهم وانضاف إلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفزع من قدرة الله تعالى فخروا سجداً لله تعالى متطارحين...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الأدب وذل النفس لا يأتي إلا بخير، لأنه اللائق بالعبيد، قاد كثيراً منهم إلى السعادة الأبدية، فلذلك قال: {وألقي السحرة} أي ألقاهم ملقى الخوف من الله والشوق إلى الخضوع بين يديه والذل لديه حين عرفوا أن ما فعله موسى عليه السلام أمر سماوي، صدق الله تعالى به موسى عليه السلام في أنه رسوله، ولم يتأخروا بعد ذلك أصلاً حتى كأنهم خروا من غير اختيار {ساجدين} شكراً لله تعالى وانسلاخاً عن الكفر ودليلاً على أقصى غايات الخضوع، فعل الله ذلك بهم حتى تبهر به فرعون وملأه وتحير عقولهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
المراد أن ظهور بطلان سحرهم وإدراكهم فجأة لحقيقة آية موسى عليه السلام وعلمهم بأنها من عند الله تعالى لا صنع فيها لمخلوق قد ملأت عقولهم يقينا وقلوبهم إيمانا فكان هذا اليقين في الإيمان البرهاني الكامل، والوجداني الحاكم على الأعضاء والجوارح، هو الذي ألقاهم على وجوههم سجدا لله رب العالمين، الذي بيده ملكوت الخلق أجمعين، ولم يبق في أنفسهم أدنى مكان لفرعون وعظمته الدنيوية الزائلة، ولاسيما وقد ظهر لهم صغاره أمام هذه الآية...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والإلقاء: مستعمل في سرعة الهُوِي إلى الأرض، أي: لم يتمالكوا أن سجدوا بدون تريث ولا تردد. و {ساجدين} حال، والسجود هيئة خاصة لإلقاء المرء نفسه على الأرض يقصد منها الإفراط في التعظيم، وسجودهم كان لله الذي عرفوه حينئذٍ بظهور معجزة موسى عليه السلام والداعي إليه بعنوان كونه رب العالمين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ولكنهم إذا كانوا قد خسروا المعركة، فقد ظفروا بما هو أعظم وهو الإيمان، إذ علموا أنها معجزة حقا وصدقا، وإن موسى وهارون صادقان بالبرهان والدليل..