مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَأُلۡقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَٰجِدِينَ} (120)

قوله تعالى : { وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون }

في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال المفسرون : إن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلثمائة بعير ، فلما ابتلعها ثعبان موسى عليه السلام وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض هذا خارج عن السحر ، بل هو أمر إلهي ، فاستدلوا به على أن موسى عليه السلام نبي صادق من عند الله تعالى ، قال المتكلمون : وهذه الآية من أعظم الدلائل على فضيلة العلم ، وذلك لأن أولئك الأقوام كانوا عالمين بحقيقة السحر واقفين على منتهاه ، فلما كانوا كذلك ووجدوا معجزة موسى عليه السلام خارجة عن حد السحر ، علموا أنه من المعجزات الإلهية ، لا من جنس التمويهات البشرية ولو أنهم ما كانوا كاملين في علم السحر لما قدروا على ذلك الاستدلال ، لأنهم كانوا يقولون : لعله أكمل منا في علم السحر ، فقدر على ما عجزنا عنه ، فثبت أنهم كانوا كاملين في علم السحر . فلأجل كمالهم في ذلك العلم انتقلوا من الكفر إلى الإيمان . فإذا كان حال علم السحر كذلك ، فما ظنك بكمال حال الإنسان في علم التوحيد .

المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله تعالى : { وألقى السحرة ساجدين } قالوا : دلت هذه الآية على أن غيرهم ألقاهم ساجدين ، وما ذاك إلا الله رب العالمين فهذا يدل على أن فعل العبد خلق الله تعالى . قال مقاتل : ألقاهم الله تعالى ساجدين . وقالت المعتزلة : الجواب عنه من وجوه : الأول : أنهم لما شاهدوا الآيات العظيمة والمعجزات القاهرة لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين ؛ فصار كأن ملقيا ألقاهم . الثاني : قال الأخفش : من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين . الثالث : أنه ليس في الآية أنه ألقاهم ملق إلى السجود ، إلا أنا نقول : إن ذلك الملقي هو أنفسهم .

والجواب : أن خالق تلك الداعية في قلوبهم هو الله تعالى ، وإلا لافتقروا في خلق تلك الداعية الجازمة إلى داعية أخرى ولزم التسلسل وهو محال . ثم إن أصل تلك القدرة مع تلك الداعية الجازمة تصير موجبة للفعل . وخالق ذلك الموجب هو الله تعالى فكان ذلك الفعل والأثر مسندا إلى الله تعالى ، والله أعلم .