قوله تعالى : { إنا كفيناك المستهزئين } ، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : فاصدع بأمر الله ، ولا تخف أحدا غير الله عز وجل ، فإن الله كافيك من عاداك كما كفاك المستهزئين ، وهم خمسة نفر من رؤساء قريش : الوليد بن المخزومي - وكان رأسهم - والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن عبد المطلب ابن الحارث بن أسد بن عبد العزى بن زمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا عليه فقال : اللهم أعم بصره واثكله بولده ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة ، والحارث بن قيس ابن الطلاطلة فأتى جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم ، والمستهزئون يطوفون بالبيت ، فقام جبريل وقام النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ، فمر به الوليد بن المغيرة فقال : جبريل : يا محمد كيف تجد هذا فقال بئس عبد الله ، فقال : قد كفيته ، وأومأ إلى ساق الوليد ، فمر برجل من خزاعة نبال يريش نباله وعليه برد يمان ، وهو يجر إزاره ، فتعلقت شظية من نبل بإزاره فمنعه الكبر أن يطاطئ رأسه فينزعها ، وجعلت تضرب ساقه ، فخدشته ، فمرض منها فمات . ومر به العاص بن وائل فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد ؟ قال : بئس عبد الله ، فأشار جبريل إلى أخمص رجليه ، وقال : قد كفيته ، فخرج على راحلته ومعه ابنان له يتنزه فنزل شعبا من تلك الشعاب فوطئ على شبرقة فدخلت منها شوكة في أخمص رجله ، فقال : لدغت لدغت ، فطلبوا فلم يجدوا شيئا ، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير ، فمات مكانه . ومر به الأسود بن المطلب ، فقال : جبريل : كيف تجد هذا ؟ قال عبد سوء ، فأشار بيده إلى عينيه ، وقال : قد كفيته فعمي . قال ابن عباس رماه جبريل بورقة خضراء فذهب بصره ووجعت عيناه ، فجعل يضرب برأسه الجدار حتى هلك . وفى رواية الكلبي : أتاه جبريل وهو قاعد في أصل شجرة ومعه غلام له فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك ، فاستغاث بغلامه ، فقال غلامه : لا أرى أحداً يصنع بك شيئاً غير نفسك ، حتى مات ، وهو يقول قتلني رب محمد . ومر به الأسود بن عبد يغوث ، فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد ؟ قال : بئس عبد الله على أنه ابن خالي . فقال : قد كفيته ، وأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه فمات حينا . وفى رواية للكلبي أنه خرج من أهله فأصابه السموم فاسود حتى عاد حبشيا ، فأتى أهله فلم يعرفوه ، وأغلقوا دونه الباب حتى مات ، وهو يقول : قتلني رب محمد . ومر به الحارث بن قيس فقال جبريل : كيف تجد هذا يا محمد ، فقال : عبد سوء فأومأ إلى رأسه وقال : قد كفيته فامتخط قيحا فقتله .
وقال ابن عباس : أنه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب عليه من الماء حتى أنقد بطنه فمات ، فذلك قوله تعالى : { إنا كفيناك المستهزئين } ، بك وبالقرآن { الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون }
وقيل : استهزاؤهم واقتسامهم : هو أن الله عز وجل لما أنزل في القرآن سورة البقرة ، وسورة النحل ، وسورة النمل ، وسورة العنكبوت ، كانوا يجتمعون ويقولون استهزاء : هذا في سورة البقرة ، ويقول هذا في سورة النحل ، ويقول هذا في سورة العنكبوت ، فأنزل الله تعالى : { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } .
ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة بتسلية أخرى له صلى الله عليه وسلم ، وبإرشاده إلى ما يزيل همه . ويشرح صدره ، فقال - تعالى - : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } .
وضيق الصدر : كناية عن كدر النفس ، وتعرضها للهموم والأحزان .
أى : ولقد نعلم - أيها الرسول الكريم - أن أقوال المشركين الباطلة فيك وفيما جئت به من عندنا ، تحزن نفسك ، وتكدر خاطرك .
وقال - سبحانه - { ولقد نعلم . . } بلام القسم وحرف التحقيق ، لتأكيد الخبر ، وإظهار مزيد من الاهتمام والعناية بالمخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحال والاستقبال .
وقوله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } أي : وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك انقباض وضيق صدر . فلا يهيدنك ذلك ، ولا يثنينك عن إبلاغك رسالة الله ، وتوكل على الله فإنه كافيك وناصرك عليهم ، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة ؛ ولهذا قال : { وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ } كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن كثير بن مُرَّة ، عن نعيم بن هَمَّار{[16293]} أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال الله : يا ابن آدم ، لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره . .
ورواه أبو داود{[16294]} من حديث مكحول ، عن كثير بن مرة ، بنحوه{[16295]}
ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حَزبه أمر صلَّى .