وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له ؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى ، والصحبة والمعرفة . وكل مألوف له في ماضي حياته ، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها ، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم ! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه . اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما قدم الأرض المقدسة سأل ربه الولد، فقال: {رب هب لي من الصالحين} هب لي ولدا صالحا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"رَبّ هَبْ لي مِنَ الصّالِحِينَ" وهذا مسألة إبراهيم ربه أن يرزقه ولدا صالحا يقول: قال: يا ربّ هب لي منك ولدا يكون من الصالحين الذين يطيعونك، ولا يعصُونك، ويصلحون في الأرض، ولا يفسدون.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فيه دليل جواز سؤال الولد الذَّكر ربه، لكنه يسأل بشرط الصلاح والطيب كما سأل الأنبياء: سأله إبراهيم عليه السلام {رب هب لي من الصالحين} وقال زكريا عليه السلام {رب هب لي من لدنك ذرّية طيبة} [آل عمران: 38] وما ذكره، وحكى عنهم مدحا لهم وثناء عليهم حين قال عز وجل: {والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما} [الفرقان: 74] يجب على كل من يسأل ربه الولد أن يسأله بهذه الشرائط التي سألها الأنبياء عليهم السلام؛ فيكون سؤالهم الولد على ذلك سؤالا لله عز وجل وما صلح لقيامه لأمره وعبادته، فأما أن يسأله إياه لذة لنفسه وسرورا له في الدنيا فلا، ثم فيه دلالة أن الولد هبة الله لهم وعطاء لهم، ولذلك قال زكريا عليه السلام: {ذرية طيبة}
وقال عز وجل: {يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور} [الشورى: 39].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
هب لي بعض الصالحين يريد الولد؛ لأنّ لفظ الهبة غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون نَبِيّاً} [مريم: 53] قال عزّ وجلّ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: 84] {وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى} [الأنبياء: 90].
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أولادا مطيعين عوَضًا من قومه وعشيرته الذين فارقهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما لم يجد له معيناً على الهجرة غير لوط ابن أخيه عليهما السلام، قال منادياً مناداة الخواص بإسقاط الأداة: {رب} أي أيها المحسن إلي {هب لي} ولداً من {الصالحين}.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكان إبراهيم حتى هذه اللحظة وحيداً لا عقب له؛ وهو يترك وراءه أواصر الأهل والقربى، والصحبة والمعرفة، وكل مألوف له في ماضي حياته، وكل ما يشده إلى الأرض التي نشأ فيها، والتي انحسم ما بينه وبين أهلها الذين ألقوه في الجحيم! فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه، اتجه إليه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وصفه بأنه من الصالحين لأن نعمة الولد تكون أكمل إذا كان صالحاً فإن صلاح الأبناء قُرة عين للآباء، ومن صلاحهم برُّهم بوالديهم.
ثم يدعو إبراهيمُ ربَّه {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] أي: هَبْ لي ذريةً صالحةً مؤمنة، ونبيُّ الله حين يتمنى الذرية لا يتمناها لتكون ذِكْرى أو عزوة أو امتداداً ينتقل إليه الميراث، فالأنبياء يريدون الولد ليَحمل رسالتهم، وليكون نموذجاً إيمانياً يرثه في دعوته؛ لذلك قال في قصة سيدنا زكريا: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 6].
فكأن سيدنا إبراهيم عَزَّ عليه ألاَّ يتسعَ عمره ليكون جندياً من جنود منهج الله في الأرض، فقال: يا رب قرّ عيني بأنْ أرى ولداً لي يحمل مسئولية النبوة من بعدي.
وقال {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] ولم يقل رب هَبْ لي الصالحين، فأراد من ذريته مَنْ هو صالح من ضمن صلاح غيره، فهو يريد الصلاحَ لذريته وللآخرين؛ لذلك أجابه ربه: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] الحليم: هو الذي لا يستفزه غضب، ويتحمل الأمور على مقدار ما تطيب به أخلاقه، ومن الحِلْم تَرْكُ المراء واللجاج، ولو كان في الحق.
لذلك جاء في حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقاً..".
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآيات هنا عكست أوّل طلب لإبراهيم (عليه السلام) من الباري عز وجل، إذ طلب الولد الصالح، الولد الذي يتمكّن من مواصلة خطّه الرسالي، ويتمم ما تبقّى من مسيرته، وذلك حينما قال: (ربّ هب لي من الصالحين).
إنّها حقّاً لعبارة جميلة (الولد الصالح واللائق) الصالح من حيث الاعتقاد والإيمان، والصالح من حيث القول والعمل، والصالح من جميع الجهات.
والذي يلفت النظر أنّ إبراهيم (عليه السلام) كان قد طلب من الله في إحدى المرّات أن يجعله من مجموعة الصالحين، كما نقل القرآن ذلك عن إبراهيم، (ربّ هب لي حكماً وألحقني بالصالحين).
فيما طلب من الله هنا أن يمنحه الولد الصالح، حيث أنّ كلمة صالح تجمع كلّ الأشياء اللائقة والجيّدة في الإنسان الكامل.
فاستجاب الله لدعاء عبده إبراهيم، ورزقه أولاداً صالحين (إسماعيل وإسحاق) وذلك ما وضحته الآيات التالية في هذه السورة (وبشّرناه بإسحاق نبيّاً من الصالحين).
وبخصوص إسماعيل يقول القرآن الكريم: (وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كلّ من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنّهم من الصالحين).