ويكون على هذا القول ، قوله : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ } إما ما يفتحه الله عليهم من البلدان ، خصوصا فتح مكة المشرفة ، فإنهم دخلوها في حالة الرضا والسرور ، وإما المراد به رزق الآخرة ، وأن ذلك دخول الجنة ، فتكون الآية جمعت بين الرزقين ، رزق الدنيا ، ورزق الآخرة ، واللفظ صالح لذلك كله ، والمعنى صحيح ، فلا مانع من إرادة الجميع { وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ } بالأمور ، ظاهرها ، وباطنها ، متقدمها ، ومتأخرها ، { حَلِيمٌ } يعصيه الخلائق ، ويبارزونه بالعظائم ، وهو لا يعاجلهم بالعقوبة مع كمال اقتداره ، بل يواصل لهم رزقه ، ويسدي إليهم فضله .
وقوله - تعالى - : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ . . . } استئناف مقرر لما قبله . و " مدخلا " أى : إدخالا ، من أدخل يدخل - بضم الياء - وهو مصدر ميمى للفعل الذى قبله ، والمفعول محذوف .
أى : ليدخلنهم الجنة إدخالا يرضونه .
وقرأ نافع ( مدخلا ) - بفتح الميم - على أنه اسم مكان أريد به الجنة ، أى : ليدخلنهم مكانا يرضونه وهو الجنة .
{ وَإِنَّ الله } - تعالى - { لَعَلِيمٌ } بالذى يرضيهم ، وبالذى يستحقه كل إنسان من خير أو شر { حَلِيمٌ } فلا يعاجل بالعقوبة ، بل يستر ويعفو عن كثير .
( ليدخلنهم مدخلا يرضونه )فقد خرجوا مخرجا يرضي الله ، فتعهد لهم الله بأن يدخلهم مدخلا يرضونه . وإنه لمظهر لتكريم الله لهم بأن يتوخى ما يرضونه فيحققه لهم ، وهم عباده ، وهو خالقهم سبحانه . ( وإن الله لعليم حليم ) . . عليم بما وقع عليهم من ظلم وأذى ، وبما يرضي نفوسهم ويعوضها . حليم يمهل . ثم يوفي الظالم والمظلوم الجزاء الأوفى . .
{ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا ] {[20391]} يَرْضَوْنَهُ } فما تبتغي{[20392]} أيها العبد إذا أدخلت مدخلا ترضاه ورزقت رزقًا حسنًا ، والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت .
ورواه ابن جرير ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب ، أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح ، عن سلامان بن عامر قال : كان فضالة برودس أميرًا على الأرباع ، فخرج بجنازتي رجلين ، أحدهما قتيل{[20393]} والآخر متوفى . . . فذكر نحو ما تقدم{[20394]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَيُدْخِلَنّهُمْ مّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ليدخلنّ الله المقتول في سبيله من المهاجرين والميت منهم مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وذلك المدخل هو الجنة . وَإنّ اللّهَ لَعَلِيمٌ بمن يهاجر في سبيله ممن يخرج من داره طلب الغنيمة أو عَرَض من عروض الدنيا . حَلِيمٌ عن عصاة خلقه ، بتركه معاجلتهم بالعقوبة والعذاب .
وقرأت فرقة ، «مُدخلاً » ، بضم الميم من أدخل{[8421]} فهو محمول على الفعل المذكور ، وقرأت فرقة «مَدخلاً » بفتح الميم من دخل فهو محمول على فعل مقدر تقديره فيدخلون مدخلاً ، وأسند الطبري عن سلامان بن عامر{[8422]} قال : كان فضالة{[8423]} برودس أميراً على الأرباع فخرج بجنازتي رجلين أحدهما قتيل والآخر متوفى فرأى ميل الناس على جنازة القتيل ، فقال : أراكم أيها الناس تميلون مع القتيل وتفضلونه فوالذي نفسي بيده ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت اقرؤوا قول الله تعالى { والذين هاجروا في سبيل الله } الآية ، إلى قوله { حليم } .
جملة { ليدخلنهم مدخلاً يرضونه } بدل من جملة { ليرزقنهم الله رزقاً حسناً } ، وهي بدل اشتمال ، لأن كرامة المنزل من جملة الإحسان في العطاء بل هي أبهج لدى أهل الهمم ، ولذلك وصف المدخل ب { يرضونه } .
ووقعت جملة { وإن الله لهو خير الرازقين } معترضة بين البدل والمبدل منه ، وصريحها الثناء على الله . وكنايتُها التعريض بأن الرزق الذي يرزقهم الله هو خير الأرزاق لصدوره من خير الرازقين .
وأكدت الجملة بحرف التوكيد ولامه وضمير الفصل تصويراً لعظمة رزق الله تعالى . وجملة : { وإن الله لعليم حليم } تذييل ، أي عليم بما تجشموه من المشاق في شأن هجرتهم من ديارهم وأهلهم وأموالهم ، وهو حليم بهم فيما لاقَوه فهو يجازيهم بما لقُوه من أجله . وهذه الآية تبيّن مزية المهاجرين في الإسلام .
وقرأ نافع { مَدخلاً } بفتح الميم على أنه اسم مكان من دَخل المجردِ لأن الإدخال يقتضي الدخول . وقرأ الباقون بضم الميم جرياً على فعل { ليُدخلنّهم } المزيد وهو أيضاً اسم مكان للإدخال .