وهنا رد عليهم موسى - عليه السلام - بثقة وثبات بقوله : { كَلاَّ } أى : كلا لن يدرككم ، فاثبتوا ولا تجزعوا { إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } .
بهذا الجزم والتأكيد رد موسى على بنى إسرائيل ، وهو رد يدل على قوة إيمانه ، وثبات يقينه ، وثقته التى لا حدود لها فى نصر الله - تعالى - له ، وفى هدايته إياه إلى طريق الفوز والفلاح .
ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه ، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه ، واليقين بعونه ، والتأكد من النجاة ، وإن كان لا يدري كيف تكون . فهي لا بد كائنة والله هو الذي يوجهه ويرعاه .
( قال : كلا إن معي ربي سيهدين ) .
كلا . في شدة وتوكيد . كلا لن نكون مدركين . كلا لن نكون هالكين . كلا لن نكون مفتونين . كلا لن نكون ضائعين ( كلا إن معي ربي سيهدين )بهذا الجزم والتأكيد واليقين .
{ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } أي : لا يصل إليكم
شيء مما تحذرون ، فإن الله ، سبحانه ، هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم ، وهو لا يخلف الميعاد .
وكان هارون ، عليه السلام ، في المقدمة ، ومعه يوشع بن نون ، [ ومؤمن آل فرعون وموسى ، عليه السلام ، في الساقة ، وقد ذكر غير واحد من المفسرين : أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون ، وجعل يوشع بن نون ]{[21738]} ، أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى ، عليه السلام : يا نبي الله ، هاهنا أمرك الله أن تسير ؟ فيقول : نعم ، واقترب فرعون وجنوده ، ولم يبق إلا القليل ، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر ، فضربه ، وقال : انفلق بإذن الله .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا صفوان بن صالح ، حدثنا الوليد ، حدثنا{[21739]} محمد بن حمزة [ بن محمد ]{[21740]} بن يوسف بن عبد الله بن سلام : أن موسى ، عليه السلام ، لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء والمكون لكل شيء ، والكائن قبل كل شيء ، اجعل لنا مخرجًا .
وقوله : كَلاّ إن مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ قال موسى لقومه : ليس الأمر كما ذكرتم ، كلا لن تدركوا إن معي ربي سيهدين ، يقول : سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه . كما :
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : لقد ذُكر لي أنه خرج فرعون في طلب موسى على سبعين ألفا من دُهم الخيل ، سوى ما في جنده من شِيَة الخيل ، وخرج موسى حتى إذا قابله البحر ، ولم يكن عنه منصرف ، طلع فرعون في جنده من خلفهم فَلَمّا تَرَاءَى الجَمْعانِ قالَ أصْحابُ مُوسَى إنّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلا إنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ أي للنجاة ، وقد وعدني ذلك ، ولا خُلف لموعوده .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ قالَ كَلاّ إنّ مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ يقول : سيكفيني ، وقال : عَسَى رَبكُمْ أنْ يُهْلِكَ عَدُوّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ، وقوله فَأَوْحَيْنا إلى مُوسَى أنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ البَحْرَ فانْفَلَقَ ذكر أن الله كان قد أمر البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بعصاه . )
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : فتقدّم هارون فضرب البحر ، فأبى ينفتح ، وقال : من هذا الجبار الذي يضربني ، حتى أتاه موسى فكناه أبا خالد ، وضربه فانفلق .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، قال : أوحى الله فيما ذكر إلى البحر : إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له ، قال : فبات البحر يضرب بعضه بعضا فرقا من الله ، وانتظار أمره ، وأوحى الله إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر ، فضربه بها وفيها سلطان الله الذي أعطاه ، فانفلق .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، ظن سليمان التيمي ، عن أبي السليل ، قال : لما ضرب موسى بعصاه البحر ، قال : إيها أبا خالد ، فأخذه أَفْكَلٌ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جرَيج ، وحجاج عن أبي بكر بن عبد الله وغيره ، قالوا : لما انتهى موسى إلى البحر وهاجت الريح والبحر يرمي بثيّاره ، ويموج مثل الجبال ، وقد أوحى الله إلى البحر أن لا ينفلق حتى يضربه موسى بالعصا ، فقال له يوشع : يا كليم الله أين أمرت ؟ قال : ههنا ، قال : فجاز البحر ما يواري حافره الماء ، فذهب القوم يصنعون مثل ذلك ، فلم يقدروا ، وقال له الذي يكتم إيمانه : يا كليم الله أين أمرت ؟ قال : ههنا ، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه ، ثم قحمه البحر فأرسب في الماء ، فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر ، فضرب بعصاه موسى البحر فانفلق ، فإذا الرجل واقف على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده .
وقوله : فَكان كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيمِ يقول تعالى ذكره : فكان كل طائفة من البحر لما ضربه موسى كالجبل العظيم . وذُكر أنه انفلق اثنتي عشرة فلقة على عدد الأسباط ، لكل سبط منهم فرق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فانْفَلَقَ فَكانَ كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيمِ يقول : كالجبل العظيم ، فدخلت بنو إسرائيل ، وكان في البحر اثنا عشر طريقا ، في كل طريق سبط ، وكان الطريق كما إذا انفلقت الجدران ، فقال : كل سبط قد قتل أصحابنا فلما رأى ذلك موسى دعا الله فجعلها قناطر كهيئة الطيقان ، فنظر آخرهم إلى أوّلهم حتى خرجوا جميعا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، وحجاج ، عن أبي بكر بن عبد الله وغيره قالوا : انفلق البحر ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، اثنا عشر طريقا في كل طريق سبط ، وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا ، وكانت الطرق بجدران ، فقال كل سبط : قد قتل أصحابنا فلما رأى ذلك موسى ، دعا الله فجعلها لهم بقناطر كهيئة الطيقان ، ينظر بعضهم إلى بعض ، وعلى أرض يابسة كأن الماء لم يصبها قطّ حتى عبر .
قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : لما انفلق البحر لهم صار فيه كوى ينظر بعضهم إلى بعض .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق فَكان كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيمِ أي كالجبل على نشَز من الأرض .
حدثني عليّ ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله فَكان كُلّ فِرْقٍ كالطّوْدِ العَظِيمِ يقول : كالجبل .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول ، في قوله كالطّوْدِ العَظِيمِ قال : كالجبل العظيم ومنه قول الأسود بن يعفر :
حَلّوا بأنْقِرَةٍ يَسيلُ عَلَيْهِمُ *** ماء الفُرَاتِ يَجيءُ مِنْ أطْوَادِ
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} موسى، عليه السلام: {كلا} لا يدركوننا {إن معي ربي سيهدين} الطريق.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كَلاّ إن مَعِيَ رَبّي سَيَهْدِينِ" قال موسى لقومه: ليس الأمر كما ذكرتم، "كلا "لن تدركوا "إن معي ربي سيهدين"، يقول: سيهدين لطريق أنجو فيه من فرعون وقومه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 61]
{فلما تراءى الجمعان} جمع موسى وجمع فرعون، أي رأى بعضهم بعضا {قال أصحاب موسى إنا لمدركون} {قال} موسى {قال كلا إن معي ربي سيهدين}. كان قوم موسى لم يعلموا بالبشارة التي بشرها الله موسى أنهم لا يدركون، وهو ما قال: {لا تخاف دركا ولا تخشى} [طه: 77] أي لا تخاف دركهم، ولا تخشى فرعون وقومه. لذلك قالوا: {إنا لمدركون}. وكانت البشارة لهم لا لموسى خاصة. يدل [على] ذلك قول موسى {كلا إن معي ربي سيهدين} على إثر قولهم {إنا لمدركون} أي كلا إنهم لا يدركونكم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{قَالَ} موسى ثقة بوعد اللّه {كَلاَّ} لا يدركونكم {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} طريق النجاة.
أحدهما: {إن معي ربي} وهذا دلالة النصرة والتكفل بالمعونة.
والثاني: قوله: {سيهدين} والهدى هو طريق النجاة والخلاص، وإذا دله على طريق نجاته وهلاك أعدائه، فقد بلغ النهاية في النصرة.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} أي: لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله، سبحانه، هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو لا يخلف الميعاد.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام وثوقاً بوعد الله، ناطقاً بمثل ما كلمه به ربه في أول القصة من قوله: {كلا} أي لا يدركونكم أصلاً؛ ثم علل ذلك تسكيناً لهم بقوله: {إن معي ربي} فكأنهم قالوا: وماذا عساه يفعل وقد وصلوا؟ قال: {سيهدين} أي بوعد مؤكد عن قرب، إلى ما أفعل مما فيه خلاصكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولكن موسى الذي تلقى الوحي من ربه، لا يشك لحظة وملء قلبه الثقة بربه، واليقين بعونه، والتأكد من النجاة، وإن كان لا يدري كيف تكون. فهي لا بد كائنة والله هو الذي يوجهه ويرعاه. (قال: كلا إن معي ربي سيهدين). كلا. في شدة وتوكيد. كلا لن نكون مدركين. كلا لن نكون هالكين. كلا لن نكون مفتونين. كلا لن نكون ضائعين (كلا إن معي ربي سيهدين) بهذا الجزم والتأكيد واليقين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
قال موسى عليه السلام ردا ومنعا: {كلا} وهذه نفي لأن يدركوهم أو نفي لما يترتب على لحاقهم بهم، وقوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} هي لإذهاب الخوف من نفوسهم، فإذا كانوا يرهبون بعزة فرعون الموهومة، فنحن في كلاءة الله تعالى، ورعايته، الله تعالى ربي الذي أنشأني وحاطني بحمايته، وكلاءته، وهو الحي القيوم رب السموات والأرض، ويهديني إلى طريق النجاة منهم، والسين لتأكيد هداية الله لطريق النجاة في المستقبل وكانت النجاة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ كَلاَّ} فلن يستطيعوا اللحاق بنا مهما حاولوا، لأن القضية ليست في مستوى القضايا العادية التي ترتكز على القدرة البشرية، بل هي في مستوى التدبير الإلهي الذي لا يخضع للأمور المألوفة في قوانين الطبيعة {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} فهو الحافظ لي من الأعداء وهو الناصر لي عليهم، في ما وعدني به في بداية الرسالة. ولذلك فإني واثق بأنه سيدلني إلى الطريق الآمن الذي لن يستطيعوا اللحاق بي من خلاله.