وقوله : إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك فقرأته عامة قرّاء المدينة سوى أبي جعفر ، وعامة قرّاء الكوفة المتأخرين منهم : إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ من قبلنا : وقرأ ذلك أبو جعفر ، وأبو عمرو بن العلاء : «إنْ هَذَا إلا خَلْقُ الأوّلِينَ » بفتح الخاء وتسكين اللام بمعنى : ما هذا الذي جئتنا به إلا كذب الأوّلين وأحاديثهم .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، نحو اختلاف القرّاء في قراءته ، فقال بعضهم : معناه : ما هذا إلا دين الأوّلين وعادتهم وأخلاقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ يقول : دين الأوّلين .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة قوله إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ يقول : هكذا خِلْقة الأوّلين ، وهكذا كانوا يحيون ويموتون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ما هذا إلا كذب الأوّلين وأساطيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : أساطير الأوّلين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : كذبهم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : إن هذا إلا أمر الأوّلين وأساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة وأصيلاً .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن علقمة ، عن ابن مسعود : إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ يقول : إن هذا إلا اختلاق الأوّلين .
قال : ثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا داود ، عن الشعبيّ ، عن علقمة ، عن عبد الله ، أنه كان يقرأ إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ ويقول شيء اختلقوه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، قال : قال علقمة إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ قال : اختلاق الأوّلين .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب : قراءة من قرأ إنْ هَذَا إلاّ خُلُقُ الأوّلِينَ بضمّ الخاء واللام ، بمعنى : إن هذا إلا عادة الأوّلين ودينهم ، كما قال ابن عباس ، لأنهم إنما عُوتبوا على البنيان الذي كانوا يتخذونه ، وبطشهم بالناس بطش الجبابرة ، وقلة شكرهم ربهم فيما أنعم عليهم ، فأجابوا نبيهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك ، احتذاءً منهم سنة من قبلهم من الأمم ، واقتفاءً منهم آثارهم ، فقالوا : ما هذا الذي نفعله إلا خُلق الأوّلين ، يَعنون بالخُلق : عادةَ الأوّلين . ويزيد ذلك بيانا وتصحيحا لما اخترنا من القراءة والتأويل ، قولهُم : وَما نَحْنُ بِمُعَذّبِينَ لأنهم لو كانوا لا يُقرّون بأن لهم ربا يقدر على تعذيبهم ، ما قالوا وَما نَحْنُ بِمَعَذّبِينَ بل كانوا يقولون : إنْ هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خلق الأوّلين ، وما لنا من معذّب يعذّبنا ، ولكنهم كانوا مقرّين بالصانع ، ويعبدون الاَلهة ، على نحو ما كان مشركو العرب يعبدونها ، ويقولون إنّها تُقَرّبُنا إلى اللّهِ زُلْفَى ، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوّته : سَوَاءٌ عَلَيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الَواعِظِينَ ثم قالوا له : ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم ، وما الله معذّبنا عليه ، كما أخبرنا تعالى ذكره عن الأمم الخالية قبلنا ، أنهم كانوا يقولون لرسلهم : إنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمّةٍ وَإنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ .
ثم قالوا { إن هذا إلا خلق الأولين } ، واختلفت القراءة في ذلك ، فقرأ نافع وعاصم وحمزة وابن عامر «خلُق » بضم اللام فالإشارة بهذا إلى دينهم وعبادتهم وتخرقهم في المصانع ، أي هذا الذي نحن عليه خلق الناس وعادتهم وما بعد ذلك بعث ولا تعذيب كما تزعم أنت ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو قلابة «خُلْق الأولين » بضم الخاء وسكون اللام ورواها الأصمعي عن نافع ، وقرأ أبو جعفر وأبو عمرو «وخَلْق الأولين » بفتح الخاء وسكون اللام وهي قراءة ابن مسعود وعلقمة والحسن ، وهذا يحتمل وجهين : أحدهما وما هذا الذي تزعمه إلا اختلاق الأولين من الكذبة قبلك وكذبهم فأنت على منهاجهم ، والثاني أن يريدوا وما هذه البنية التي نحن عليها إلا البنية التي عليها الأولون حياة وموت وما ثم بعث ولا تعذيب ، وكل معنى مما ذكرته تحتمله كل قراءة ، وروى علقمة عن ابن مسعود «إلا اختلاق الأولين » وباقي الآية قد مضى تفسيره .
جملة : { وما نحن بمعذبين } على المعاني الأولِ والثاني والثالِث عطف على جملة { إن هذا إلا خلق الأولين } عطف مغاير .
وعلى المعنى الرابع عطفُ تفسير لقولهم { إن هذا إلا خلق الأولين } تصريحاً بعد الكناية . والقصر قصْر إضافي على المعاني كلها .
ولا شك أن قوم هود نطقوا بلغتهم جملاً كثيرة تنحل إلى هذه المعاني فجمعها القرآن في قوله : { إن هذا إلا خلق الأولين } باحتمال اسم الإشارة واختلاف النطق بكلمة خُلق فللَّه إيجازه وإعجازه .