قوله تعالى : { قال فإن اتبعتني } ، فإن صحبتني ، ولم يقل : اتبعني ولكن جعل الاختيار إليه إلا أنه شرط عليه شرطاً فقال : { فلا تسألني } ، قرأ أبو جعفر ، ونافع وابن عامر ، بفتح اللام وتشديد النون ، والآخرون بسكون اللام وتخفيف النون ، { عن شيء } أعمله فيما تنكره ولا تعترض عليه ، { حتى أحدث لك منه ذكراً } ، حتى أبتدئك بذكره فأبين لك شأنه .
وهنا يحكى القرآن الكريم أن الخضر ، قد أكد ما سبق أن قاله لموسى ، وبين له شروطه إذا أراد مصاحبته ، فقال : { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } . أى : قال الخضر لموسى على سبيل التأكيد والتوثيق : يا موسى إن رافقتنى وصاحبتنى ، ورأيت منى أفعالا لا تعجبك ، لأن ظاهرها يتنافى مع الحق . فلا تعترض عليها ، ولا تناقشنى فيها ، بل اتركنى وشأنى ، حتى أبين لك فى الوقت المناسب السبب فى قيامى بتلك الأفعال ، وحتى أكون أنا الذى أفسره لك .
قالوا : " وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضى دوام الصحبة ، فلو صبر موسى ودأب لرأى العجب " .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } .
يقول تبارك وتعالى : قال العالم لموسى : فإن اتبعتني الاَن فلا تسألني عن شيء أعمله مما تستنكره ، فإني قد أعلمتك أني أعمل العمل على الغيب الذي لا تحيط به علما حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا يقول : حتى أحدث أنا لك مما ترى من الأفعال التي أفعلها التي تستنكرها أذكرها لك وأبين لك شأنها ، وأبتدئك الخبر عنها ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس فَلا تَسأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا يعني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه .
التاء في قوله : { فإن اتبعتني } تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابراً ، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه .
وأكد النهي بحرف التوكيد تحقيقاً لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم ، لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسؤول بإكمال عمله فتضيق له نفسه ، فربما كان الجواب عنه بدون شَرَهِ نفس ، وربما خالطه بعض القلق فيكون الجواب غير شاففٍ ، فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسباً ليكون البيان أبسط والإقبال أبهج فيزيد الاتصال بين القرينين .
والذكر ، هنا : ذكر اللسان . وتقدم عند قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } في سورة البقرة ( 40 ) . أعني بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض .
وإحداث الذكر : إنشاؤه وإبرازه ، كقول ذي الرمة :
وقرأ نافع { فَلَا تَسْأَلَنِّي } بالهمز وبفتح اللام وتشديد النون على أنه مضارع سأل المهموز مقترناً بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية وبإثبات ياء المتكلم .
وقرأ ابن عامر مثله ، لكن بحذف ياء المتكلم . وقرأ البقية { تسألني } بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون . وأثبتوا ياء المتكلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} الخضر، عليه السلام: {فإن اتبعتني فلا تسئلني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا}، يقول: حتى أبين لك بيانه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تبارك وتعالى: قال العالم لموسى: فإن اتبعتني الآن فلا تسألني عن شيء أعمله مما تستنكره، فإني قد أعلمتك أني أعمل العمل على الغيب الذي لا تحيط به علما "حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا "يقول: حتى أحدث أنا لك مما ترى من الأفعال التي أفعلها التي تستنكرها أذكرها لك وأبين لك شأنها، وأبتدئك الخبر عنها...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والصَّبْرُ: تَجَرُّعُ مرارةٍ تَمنَع النّفْسَ عما تُنازِع إليه. وأصلُه حَبْسُ النّفْسِ عن أمرٍ من الأمور.
والذِّكْر: العِلْمُ، والذِّكر إدراكُ النّفْسِ للمعنى بحضوره كحضور نقيضِه، ويمكن أن يُجامِعَه عِلمٌ يَصْحَبُه أو جهلٌ أو شكٌّ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
«فلا تَسْأَلَنِّي»...، يعني: فمِنْ شرْط اتباعِك لي أنك إذا رأيتَ مني شيئاً -وقد عَلِمتَ أنه صحيحٌ إلاّ أنه غُبي عليك وجهُ صحّتِه فحَمِيتَ وأَنكرتَ في نفسك- أن لا تُفاتحَني بالسؤال، ولا تُراجِعَني فيه، حتى أكون أنا الفاتح عليك... وهذا من آداب المتعلِّمِ مع العالِم والمتبوعِ مع التابع...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فقَوَّى الخضرُ وَصاتَه وأمَرَه بالإمساك عن السؤال والإِكْنانِ لِمَا يراه حتى يَبتدئه الخضرُ لِشرْح ما يجب شرْحُه...
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وهذا من الخضر تأديبٌ وإرشادٌ لِمَا يَقتضي دوامَ الصُّحْبةِ، فلو صَبَرَ ودَأَبَ لَرَأى العَجَبَ، لكنه أَكثَرَ من الاعتراض فتَعَيَّنَ الفِراقُ والإِعراضُ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فإنِ اتَّبَعْتَني} يا موسى اتِّباعاً بليغاً {فلا تَسْأَلَنِّي عن شيءٍ} أقولُه أو أفعلُه {حتى أُحْدِثَ لك} خاصّةً {منه ذِكْراً} يُبَيِّنُ لك وجهَ صوابِه، فإنّي لا أُقْدِمُ على شيءٍ إلا وهو صوابٌ جائزٌ في نفس الأمر وإنْ كان ظاهرُه غيرَ ذلك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وأكّد النهيَ بحرف التوكيد تحقيقاً لحصول أَكمَلِ أحوالِ المتعلم مع المعلم، لأن السؤال قد يصادِف وقتَ اشتغالِ المسؤولِ بإكمال عملِه فتَضِيقُ له نفسُه، فربما كان الجواب عنه بدون شَرَهِ نفْسٍ، وربما خالَطه بعضُ القلق فيكون الجواب غير شافٍ، فأراد الخضرُ أن يَتولَّى هو بيانَ أعمالِه في الإبّان الذي يراه مناسباً ليكون البيانُ أَبْسَطَ والإقبالُ أَبْهَجَ فيزيد الاتصالُ بين القرينَيْن...
والذِّكْر، هنا: ذِكْرُ اللِّسانِ...
أعني بيانَ العِلل والتوجيهاتِ وكشْفَ الغَوامِضِ. وإحْداثُ الذِّكْر: إنشاؤه وإبرازُه...
وهذا تأكيد من الخضر لموسى، وبيان للطريقة التي يجب اتباعها في مصاحبته: إن تبعتني فلا تسألني حتى أخبرك، وكأنه يعلمه أدب تناول العلم والصبر عليه، وعدم العجلة لمعرفة كل أمر من الأمور على حدة.