{ 8 - 16 } { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ * أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }
يقول الله تعالى ، لنبيه صلى الله عليه وسلم : { فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ } الذين كذبوك وعاندوا الحق ، فإنهم ليسوا أهلًا لأن يطاعوا ، لأنهم لا يأمرون إلا بما يوافق أهواءهم ، وهم لا يريدون إلا الباطل ، فالمطيع لهم مقدم على ما يضره ، وهذا عام في كل مكذب ، وفي كل طاعة ناشئة عن التكذيب ، وإن كان السياق في شيء خاص ، وهو أن المشركين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يسكت عن عيب آلهتهم ودينهم ، ويسكتوا عنه ، ولهذا قال : { وَدُّوا }
ثم أرشده - سبحانه - إلى جانب من مسالكهم الخبيثة ، وصفاتهم القبيحة ، وحذره من الاستجابة إلى شئ من مقترحاتهم ، فقال : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين . وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ }
وقوله : { وَدُّواْ } من الود بمعنى المحبة . وقوله : { تُدْهِنُ } من الإدهان وهى المسايرة والمصانعة والملاينة للغير . وأصله أن يجعل على الشئ دهنا لكي يلين أو لكي يحسن شكله ، ثم استعير للملاينة والمساهلة مع الغير .
أي : إن ربك - أيها الرسول الكريم - لا يخفى عليه شئ من أحوالك وأحوالهم ، وما دام الأمر كذلك ، فاحذر أن تطيع هؤلاء المكذبين في شئ مما يقترحونه عليك ، فإنهم أحبوا وودوا أن تقبل بعض مقترحاتهم ، وأن تلاينهم وتطاوعهم فيما يريدون منك . . وهم حينئذ يظهرون لك من جانبهم الملاينة والمصانعة . . حتى لكأنهم يميلون نحو الاستجابة لك ، وترك إيذائك وإيذاء أصحابك .
فالآية الكريمة تشير إلى بعض المساومات التي عرضها المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم وما أكثرها ، ومنها : ما ذكره ابن إسحاق في سيرته من أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فإن كان الذي تعبد خيرا مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه ، وإن كان ما نعبد خيرا مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه ، فنزلت سورة " الكافرون " .
ومنها ما دار بينه صلى الله عليه وسلم وبين الوليد بن المغيرة تارة ، وبينه وبين عتبة بن ربيعة تارة أخرى . . مما هو معروف في كتب السيرة .
ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم " لعمه أبي طالب عندما نصحه بأن يترك المشركين وشأنهم ، وقال له : يا ابن أخي أشفق على نفسك وعلي ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق .
وقال له صلى الله عليه وسلم : يا عماه ، والله لو وضعوا الشمس في يمينى ، والقمر في يساري . على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتى يظهره الله أو أهلك فيه . . " .
والتعبير بقوله : { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } يشير إلى أن الملاينة والمصانعة كانت منهم ، لا منه صلى الله عليه وسلم ، فهم الذين كانوا يحبون منه أن يستجيب لمقترحاتهم ، لكي يقابلوا ذلك بالتظاهر بأنهم على صلة طيبة به وبأصحابه .
قال صاحب الكشاف : قوله : { فَلاَ تُطِعِ المكذبين } تهييج وإلهاب للتصميم على معاصاتهم ، وكانوا قد أرادوا على أن يعبد الله مدة ، وآلهتهم مدة ، ويكفوا عن غوائلهم ، .
وقوله : { لَوْ تُدْهِنُ } لو تلين وتصانع { فَيُدْهِنُونَ } .
فإن : قلت : لماذا رفع " فيدهنون " ولم ينصب بإضمار " أن " وهو جواب التمني ؟ قلت : قد عدل إلى طريق آخر ، وهو أنه جعل خبر مبتدأ محذوف . أي : فهم يدهنون ، كقوله : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } على معنى : ودوا لو تدهن فهم يدهنون . .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلاَ تُطِعِ الْمُكَذّبِينَ * وَدّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلاَ تُطِعْ كُلّ حَلاّفٍ مّهِينٍ * هَمّازٍ مّشّآءِ بِنَمِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فَلا تُطِعْ يا محمد المُكَذّبِينَ بآيات الله ورسوله . { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } . اختلف أهل التأويل في تأويله ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ودّ المكذّبون بآيات الله لو تكفر بالله يا محمد فيكفرون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَوْتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يقول : ودّوا لو تكفر فيكفرون .
حُدثت عن الحسين ، فقال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال : تكفُر فيكفرون .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان { وَدّوا لَوْتُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال : تكفر فيكفرون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ودّوا لو تُرخّص لهم فيُرخّصون ، أو تلين في دينك فيلينون في دينهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ يقول : لو ترخص لهم فيرخّصون .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } ، قال : لو تَرْكَنُ إلى آلهتهم ، وتترك ما أنت عليه من الحقّ فيما لئونك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } ، يقول : ودّوا يا محمد لو أدهنت عن هذا الأمر ، فأدهنوا معك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَدّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال : ودّوا لو يُدْهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُدْهنون .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : ودّ هؤلاء المشركون يا محمد لو تلين لهم في دينك بإجابتك إياهم إلى الركون إلى آلهتهم ، فيلينون لك في عبادتك إلهك ، كما قال جلّ ثناؤه : { وَلَوْلا أنْ ثَبّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلاً إذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ المَماتِ } وإنما هو مأخوذ من الدّهن شبه التليين في القول بتليين الدّهن .
تفريع على جملة { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } [ القلم : 7 ] إلى آخرها ، باعتبار ما تضمنته من أنه على الهدى ، وأن الجانب الآخر في ضلال السبيل ، فإن ذلك يقتضي المشادة معهم وأن لا يلين لهم في شيء ، فإن أذاهم إياه آل إلى محاربة الحق والهدى ، وتَصلّب فيما هم عليه من الضلال عن سبيل الله فلا يستأهلون به لِيناً ولكن يستأهلون إغلاظاً .
رُوي عن الكلبي وزيد بن أسلم والحسن بألفاظ متقاربة تحوم حول أن المشركين ودّوا أن يمسك النبي صلى الله عليه وسلم عن مجاهرتهم بالتضليل والتحقير فيمسكوا عن أذاه ، ويصانعَ بعضُهم بعضاً فنهاه الله عن إجابتهم لما وَدُّوا .