يقول تعالى ذكره : إن هذا الذي خلقته وحيدا ، فكّر فيما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن ، وقدّر فيما يقول فيه فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ يقول : ثم لعن كيف قدّر النازل فيه ثُمّ نَظَرَ يقول : ثم روّي في ذلك ثُمّ عَبَس يقول : ثم قبض ما بين عينيه وَبَسَرَ يقول : كلح وجهه ومنه قول توبة بن الحُمَيّر :
وَقَدْ رَابَنِي مِنْها صُدُودٌ رأيتُهُوإعْراضُها عَنْ حاجَتِي وبُسُورُها
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت الأخبار عن الوحيد أنه فعل . ذكر الرواية بذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر عن عباد بن منصور ، عن عكرِمة ، أن الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فقال : أي عمّ إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً ، قال : لِمَ ؟ قال : يعطونكه فإنك أتيت محمدا تتعرّض لما قِبَله قال : قد علمت قريش أني أكثرها مالاً ، قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنّك مُنكر لما قال ، وأنك كاره له قال : فما أقول فيه ، فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ، ولا أعلم برجزه مني ، ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجنّ ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله لحلاوة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو ولا يعلى قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر فيه فلما فكّر قال : هذا سحر يأثره عن غيره ، فنزلت ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا . قال قتادة : خرج من بطن أمه وحيدا ، فنزلت هذه الاَية حتى بلغ تسعة عشر .
حدثني محمد بن سعيد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ . . . إلى ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ قال : دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر بن أبي قُحافة رضي الله عنه يسأله عن القرآن فلما أخبره خرج على قريش فقال : يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة ، فوالله ما هو بشعر ، ولا بسحر ، ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا وقالوا : والله لئن صبأ الوليد لتصبأن قريش ، فلما سمع بذلك أبو جعل قال : أنا والله أكفيكم شأنه فانطلق حتى دخل عليه بيته ، فقال للوليد : ألم تر قومك قد جمعوا لك الصدقة ؟ قال : ألستُ أكثرهم مالاً وولدا ؟ فقال له أبو جهل : يتحدّثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قُحافة لتصيب من طعامه قال الوليد : أقد تحدثت به عشيرتي فلا يقصر عن سائر بني قُصيّ لا أقرب أبا بكر ولا عمر ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم : ذَرْنِي وَمَن خَلَقْتُ وَحِيدا . . . إلى لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّهُ فَكّرَ وقدّر زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال هذا الرجل ، فإذا هو ليس له بشعر ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وما أشكّ أنه سحر ، فأنزل الله فيه : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ . . . الاَية ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ : قبض ما بين عينيه وكلح .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فَكّرَ وَقَدّرَ قال : الوليد بن المغيرة يوم دار الندوة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ذَرْنِي وَمَن خَلَقْتُ وَحِيدّا يعني الوليد بن المغيرة دعاه نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقال : حتى أنظر ، ففكر ثُمّ نَظَرَ ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمّ أدْبَرَ وَاسْتَكْبَر فَقالَ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ فجعل الله له سقر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدا وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُودا . . . إلى قوله : إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ قال : هذا الوليد بن المغيرة قال : سأبتار لكم هذا الرجل الليلة ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فوجده قائما يصلي ويقتريء ، وأتاهم فقالوا : مَهْ ؟ قال : سمعت قولاً حلوا أخضر مثمرا يأخذ بالقلوب ، فقالوا : هو شعر ، فقال : لا والله ما هو بالشعر ، ليس أحد أعلم بالشعر مني ، أليس قد عرَضتْ عليّ الشعراء شعرَهم نابغة وفلان وفلان ؟ قالوا : فهو كاهن ، فقال : لا والله ما هو بكاهن ، قد عرضت عليّ الكهانة ، قالوا : فهذا سحر الأوّلين اكتتبه ، قال : لا أدري إن كان شيئا فعسى هو إذا سحر يؤثر ، فقرأ : فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ قال : قتل كيف قدّر حين قال : ليس بشعر ، ثم قتل كيف قدّر حين قال : ليس بكهانة .
وقوله تعالى مخبراً عن الوليد { إنه فكر وقدر } الآية ، روى جمهور المفسرين أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام ، ودخل إلى أبي بكر الصديق مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ، فقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن ، وقال : افعل ذلك ثم فكر فيما عسى أن يقول في القرآن ، فقال : أقول شعر ما هو بشعر ، أقول هو كاهن ؟ ما هو بكاهن ، أقول هو { سحر يؤثر } هو قول البشر{[11424]} ، أي لبس منزل من عند الله قال أكثر المفسرين .
فقوله تعالى : { فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر } هو دعاء عليه وتقبيح لحاله أي أنه ممن يستحق ذلك .
وروي عن الزهري وجماعة غيره أو الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : والله إن له لحلاوة وإن أصله لعذق{[11424]} وإن فرعه لجناة{[2]} وإنه ليحطم ما تحته وإنه ليعلو ولا يعلى ونحو هذا من الكلام فخالفوه فقالوا له : هو شعر ، فقال والله ما هو بشعر ، ولقد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه{[3]} ، قالوا : فهو كاهن ، قال والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان وزمزمتهم{[4]} ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، ولقد رأينا المجنون وخنقه{[5]} ، قالوا : هو سحر ، قال أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه{[6]} .
قال القاضي أبو محمد : فيحتمل قوله تعالى : { فقتل كيف قدر } أن يكون دعاء عليه على معنى تقبيح حاله ، ويحتمل أن يكون دعاء مقتضاه استحسان منزعه{[7]} الأول ومدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه فيجري هذا مجرى قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي جندل بن سهيل : «ويل أمه مسعر حرب »{[8]} ، ومجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً كأنه رآنا حين قال كذا{[9]} ، وهذا معنى مشهور في كلام العرب .
وقولُه : { ثم قُتل كيف قدّر } تأكيد لنظيره المفرّع بالفاء . والعطف ب { ثم } يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها فِي الغرض المسوق له الكلام . فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذُو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة . وهذا كقوله : { كَلاَّ سيعلمون ثم كلا سيعلمون } [ النبأ : 4 ، 5 ] .
و { كَيف قدّر } في الموضعين متحد المعنى وهو اسم استفهام دال على الحالة التي يبينها متعلِّق { كيف } .
والاستفهام موجه إلى سامع غير معيّن يستفهم المتكلم سامعه استفهاماً عن حالة تقديره ، وهو استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإِنكار على وجه المجاز المرسل .
و { كيف } في محل نصب على الحال مقدمة على صاحبها لأن لها الصدر وعاملها { قَدَّر } .