القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مّنكُمْ وَلََكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ويحلف بالله لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون كذبا وباطلاً خوفا منكم ، إنهم لمنكم في الدين والملة . يقول الله تعالى مكذّبا لهم : وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم ، بل هم أهل شكّ ونفاق . وَلَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يقول : ولكنهم قوم يخافونكم ، فهم خوفا منكم يقولون بألسنتهم : إنا منكم ، ليأمنوا فيكم فلا يقتلوا .
وقوله { ويحلفون } الآية ، أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم يحلفون أنهم من المؤمنين في الدين والشريعة ثم أخبر تعالى عنهم على الجملة لا على التعيين أنهم ليسوا من المؤمنين ، وإنما هم يفزعون منهم فيظهرون الإيمان وهو يبطنون النفاق ، و «الفرق » ، الخوف ، والفروقة الجبان{[5705]} وفي المثل وفرق خير من حبين{[5706]} .
هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق . وضمائر الجمع عائدة إليهم ، قصد منها إبطال ما يموّهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقَسم على أنّهم من المؤمنين .
فمعنى : { إنهم لمنكم } أي بعض من المخاطبين ولمّا كان المخاطبون مؤمنين ، كانَ التبعيض على اعتبار اتّصافهم بالإيمان ، بقرينة القَسَم لأنّهم توجّسوا شكّ المؤمنين في أنّهم مثلهم .
واختيار صيغة المضارع في قوله : { ويحلفون } وقوله : { يفرقون } للدلالة على التجدّد وأنّ ذلك دأبهم .
ومقتضى الاستدراك : أن يكون المستدرك أنّهم ليسوا منكم ، أي كافرون ، فحُذف المستدرك استغناء بأداة الإستدراك ، وذُكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنّه تظاهر باطل وبأنّ الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم : هم أنّهم يفرَقون من المؤمنين ، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين .
وحذف متعلّق { يفرقون } لظهوره ، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم ، كما قال تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } [ الأحزاب : 60 ، 61 ] .
وقوله : { وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضاً وما هم منكم ولكنّهم قوم متّصفون بصفة الجُبن ، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزّة ، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين ، وفي معنى هذا قوله تعالى : { قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } [ هود : 46 ] وقول مساور بن هند في ذمّ بني أسد :
زَعَمتُم أنَّ إخوتـكم قُريش *** لهم إلْفٌ وليس لكم إلاف
أولئك أومِنُوا جُوعاً وخوفاً *** وقد جَاعَتْ بنو أسد وخافوا
فيكون توجيهاً بالثناء على المؤمنين ، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى . وفي هذه الآية دلالة على أنّ اختلاف الخُلق مانع من المواصلة والموافقة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويحلفون بالله} يعنيهم، {إنهم لمنكم} معشر المؤمنين على دينكم، يقول الله: {وما هم منكم} على دينكم، {ولكنهم قوم يفرقون} القتل، فيظهرون الإيمان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ويحلف بالله لكم أيها المؤمنون هؤلاء المنافقون كذبا وباطلاً خوفا منكم، "إنهم لمنكم "في الدين والملة. يقول الله تعالى مكذّبا لهم: "وَما هُمْ مِنْكُمْ" أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم، بل هم أهل شكّ ونفاق. "وَلَكِنّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ" يقول: ولكنهم قوم يخافونكم، فهم خوفا منكم يقولون بألسنتهم: إنا منكم، ليأمنوا فيكم فلا يُقتلوا.
الحَلِف: تأكيد الخبر بذكر المعظَّم على منهاج الله وبالله والحروف الموضوعة للقسم، وكذلك القسم واليمين، إلا أن الحَلفَ من إضافة الخبر إلى المعظَّم؛ وقوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله} إخبارٌ عنهم باليمين بالله، وجائز أن يكون أراد الخبر عن المستقبل في أنهم سيحلفون بالله...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
...والفرَق: انزعاج النفس بتوقع الضرر، وأصله من مفارقة الأمن إلى حال الانزعاج.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
التَّقَرُّبُ بالأَيْمانِ الفاجِرةِ لا يوجِبُ للقلوب إلا بُعْداً عن القُبول...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وضح بهذه الأمور منابذتهم للمؤمنين وخروجهم من ربقة الدين المصحح لوصفهم بالفسق، أوضح لبساً آخر من أحوالهم يقيمونه بالأيمان الكاذبة فقال: {ويحلفون} أي طلبوا لكم الفتنة والحال أنهم يجددون الأيمان {بالله} أي على ما له من تمام العظمة {إنهم} أي المنافقين {لمنكم} أي أيها المؤمنون على اعتقادكم باطناً كما هم ظاهراً {وما} أي والحال أنهم ما {هم} صادقين في حلفهم أنهم {منكم ولكنهم قوم} أي مع أن لهم قوة وقياماً فيما يحاولونه {يفرقون} أي يخافون منكم على دمائهم خوفاً عظمياً يفرق همومهم فهو الملجئ لهم إلى الحلف كذباً على التظاهر بالإسلام، فكأنه قيل: فما لهم يقيمون بيننا والمبغض لا يعاشر من يبغضه؟ فقيل: لأنهم لا يجدون ما ا يحميهم منكم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كان أولئك المنافقون يدسون أنفسهم في الصف، لا عن إيمان واعتقاد، ولكن عن خوف وتقية، وعن طمع ورهب. ثم يحلفون أنهم من المسلمين، أسلموا اقتناعاً، وآمنوا اعتقاداً.. فهذه السورة تفضحهم وتكشفهم على حقيقتهم، فهي الفاضحة التي تكشف رداء المداورة وتمزق ثوب النفاق: (ويحلفون باللّه إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون. لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلاً لولوا إليه وهم يجمحون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق. وضمائر الجمع عائدة إليهم، قصد منها إبطال ما يموّهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقَسم على أنّهم من المؤمنين.
فمعنى: {إنهم لمنكم} أي بعض من المخاطبين ولمّا كان المخاطبون مؤمنين، كانَ التبعيض على اعتبار اتّصافهم بالإيمان، بقرينة القَسَم لأنّهم توجّسوا شكّ المؤمنين في أنّهم مثلهم.
واختيار صيغة المضارع في قوله: {ويحلفون} وقوله: {يفرقون} للدلالة على التجدّد وأنّ ذلك دأبهم.
ومقتضى الاستدراك: أن يكون المستدرك أنّهم ليسوا منكم، أي كافرون، فحُذف المستدرك استغناء بأداة الاستدراك، وذُكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنّه تظاهر باطل وبأنّ الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم: هم أنّهم يفرَقون من المؤمنين، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين.
وحذف متعلّق {يفرقون} لظهوره، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم، كما قال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً} [الأحزاب: 60، 61].
وقوله: {وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضاً وما هم منكم ولكنّهم قوم متّصفون بصفة الجُبن، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزّة، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين، وفي معنى هذا قوله تعالى: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 46...فيكون توجيهاً بالثناء على المؤمنين، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى. وفي هذه الآية دلالة على أنّ اختلاف الخُلق مانع من المواصلة والموافقة.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
(الواو) تدل على صلة هذه الجملة بالتي قبلها؛ لأن الكلام كله في المنافقين، وشعورهم نحو المؤمنين، يحاول أولئك المنافقون أن يشعروا المؤمنين بأنهم منهم في شعورهم وإحساسهم، واتجاههم ليستطيعوا أن يثبتوا فيهم ما يريدون من خداع وان يفتنوهم عن دينهم، ويدسوا فيهم الخوف وضعف العزيمة، و ذريعتهم الحلف بالله العظيم، وذلك يدل على مهانتهم في ذات أنفسهم، كما قال تعالى: {ولا تطع كل حلاف مهين (10)} (القلم).
وموضع القسم أنهم منكم، ولذا يقول تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} ويؤكدون ادعاءهم لا بالنطق فقط، بل بغير ذلك (بأنهم لمنكم) فيؤكدون ب (إن) وباللام التي في خبرها، يؤكدون ذلك فضل تأكيد. والله يشهد أنهم ليسوا منكم بشعورهم وإحساسهم، بل تفرقت القلوب بينكم وبينهم بسبب نفاقهم، كما قال تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون (2)} (المنافقون).
وقد قال تعالى مردفا هذا الادعاء بما يدل على الدافع لهم على هذا الحلف {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} الفرق: الخوف. الاستدراك في قوله تعالى: {وَلَكِنَّهُمْ} هو استدراك من حلفهم، ويفيد عدم تصديقهم تأكيدا لقوله تعالى: {وَمَا هُم مِّنكُمْ} وخوفهم من ناحيتين، أولاهما خوفهم من المؤمنين من أن يعرفوا حالهم، وينكشف أمرهم، وهو مكشوف، وهم يظنونه مستورا، وغرارة المنافق دائما أنه يحسب دائما أن أمره مستور، وهو معلوم ولا يجهل كشفه إلا هو، والثانية أنهم يخافون أن يغامروا في جهاد مع المؤمنين، إذ يحسبون الجهاد مغامرة، لأنهم لا يؤمنون به، ولا يحسبون أن الجهاد حياة في عزة، ولا يؤمنون بالحياة الآخرة، فيحسبون أن النهاية تكون عند الموت وأنهم يجعلون أنفسهم من المؤمنين، ولا يقولون أنهم معهم، بل يقولون إنهم من المؤمنين، وادعاؤهم أنهم منهم يتضمن أنهم مؤمنون، وأنهم جزء من المجتمع الكريم أو بعضه، ذلك إيغال في دعوى أن شعورهم كشعورهم، ولو مع ادعائهم ذلك يضيقون بجوارهم للمؤمنين، ويريدون أن يفارقوهم، ولذا قال تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ويفضح كتاب الله خصلة من خصال المنافقين الملازمة لهم في القديم والحديث، ألا وهي خصلة الإكثار من الحلف باسم الله، ومن استعمال الأيمان المغلظة، بمناسبة أو بغير مناسبة، شعورا منهم بفقدان الثقة فيهم، وعدم الاطمئنان إليهم، فيحولون انتزاع الثقة من المخاطبين، باستعمال الحلف وتوكيد اليمين، وذلك ما ينص عليه قوله تعالى هنا: {ويحلفون بالله إنهم لمنكم} ثم يرد عليهم كتاب الله مكذبا حلفهم ويمينهم الغموس، فيقول: {وما هم منكم} وسترد آية أخرى في الربع القادم بنفس هذا المعنى: {يحلفون بالله لكم ليرضوكم، والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين}. ويمضي كتاب الله في فضيحة المنافقين وهتك أستارهم من أي جيل أو قبيل، فيؤكد ما انطووا عليه في ذات أنفسهم من الخوف والجزع، والرعب والفزع، على العكس من المؤمنين الذين هم أشداء على الأعداء، يوم اللقاء، وأقوياء دائما على التضحية والفداء، وذلك قوله تعالى هنا: {ولكنهم قوم يفرقون} أي قوم جبناء يصيبهم الفرق وهو الخوف: {لو يجدون ملجأ} أي حصنا يتحصنون به {أو مغارات} أي كهوفا في قمم الجبال {أو مدخلا} أي نفقا تحت الأرض: {لولوا إليه وهم يجمحون} أي لفروا إليه وهم يسرعون...
لماذا أتى الله بهذه الآية بعد أن حذرنا من أن نعجب بأموال المنافقين وأولادهم؟ لأن هذه ليست نعمة لهم ولكنها نقمة عليهم، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشحننا ضد المنافقين وأن يجعلنا نحذر منهم كل الحذر، ويضرب لنا المثل باليمين، واليمين لا ينطق بها الإنسان عادة إلا بعد شبهة إنكار. فإذا جئت لإنسان بخبر وصدقه فأنت لا تضطر لأن تحلف له، ولكن إذا أنكره فأنت تحلف لتزيل شبهة الإنكار لنفسه، ولذلك فأنت حين تروي الخبر لأول مرة لا تحلف، فإذا أنكره سامعك حلفت. ولكن لماذا يحلف المنافقون دون سابق إنكار؟. إنهم يسمعون القرآن الذي ينزل من السماء مملوءا بالغضب عليهم، وهم يشعرون في داخل صدورهم أن كل مسلم في قلبه شك من ناحية تصرفاتهم، فيبدأ كلامهم بالحلف حتى يصدقهم المؤمنون، والمؤمنون قد متعهم الله بمناعة إيمانية، في صدورهم؛ فلا يصدقون ما يقوله المنافقون، حتى يأخذ حذرهم ويكونوا بمنجاة مما يدبره هؤلاء المنافقون من أذى، ولذلك حذر سبحانه وتعالى المؤمنين من تصديق كلام المنافقين حتى ولو حلفوا. ولو لم يعط الله المؤمنين هذه المناعة الإيمانية لصدقوا قول المنافقين بقداسة اليمين. وبماذا حلف المنافقون؟ لقد حلفوا بأنهم من المؤمنين والحقيقة أنهم في مظاهر التشريع يفعلون كما يفعل المؤمنون، ولكن قلوبهم ليس فيها يقين أو صدق. وما داموا على غير يقين وغير صدق، فلماذا يحلفون؟ نقول: إن هذا هو تناقض الذات، وأنت تجد المؤمن غير متناقض مع نفسه؛ لأنه مؤمن بقلبه ومؤمن بذاته، ومؤمن بجوارحه، ولا توجد ملكات تتناقض فيه، والكافر أيضا غير متناقض مع نفسه؛ لأنه يعلن صراحة أنه لا يؤمن بالله ولا برسوله، فليس هناك تناقض بين ظاهره وباطنه، وصحيح أن فيه ملكة واحدة، ولكنها فاسدة، ولكن ليس فيه تناقض بين ما يفعل ظاهرا وما في قلبه. أما المنافق فتتناقض ملكاته. فهو يقول بلسانه:"أنا مؤمن وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله". لكن قلبه يناقض ما يقوله، فلا يشهد بوحدانية الألوهية لله، ولا يصدق رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة "المنافقون ": {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1) (المنافقون). كيف يقول الحق سبحانه وتعالى {إن المنافقين لكاذبون}، مع أنهم شهدوا بما شهد به الله، وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله؟ نقول: إن الحق أراد أن يفضحهم، فهم قد شهدوا بألسنتهم فقط ولكن قلوبهم منكرة. وفضح الله ما في قلوبهم وأوضح أن ألسنتهم تكذب؛ لأنها لا تنقل صدق ما في قلوبهم. إذن: فالمنافق يعيش في تناقض مع نفسه، وهو شر من الكافر؛ لأن الكافر يعلن عداءه للدين فهو عدو ظاهر لك فتأخذ حذرك منه. أما المنافق فهو يتظاهر بالإيمان، فتأمن له ويكون إيذاؤه أكبر، وقدرته على الغدر أشد. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ترسم الآيتان أعلاه حالة أُخرى من أعمال المنافقين بجلاء، إذ تقول الآية الأُولى: (ويحلفون بالله إنّهم لمنكم وما هم منكم ولكنّهم قوم يفرقون) ومن شدّة خوفهم وَفَرقِهم يخفون كفرهم ويظهرون الإِيمان.
و«يفرقون» من مادة «الفرق» على زنة «الشفق» ومعناه شدّة الخوف.
يقول «الراغب» في «المفردات» إِن الفرق في الأصل معناه التفرّق والتشتت، فكأنّهم لشدّة خوفهم تكاد قلوبهم أن تتفرق وتتلاشى.
وفي الواقع أنّ مثل هؤلاء لما فقدوا ما يركنون إِليه في أعماقهم، فهم في هلع واضطراب عظيم دائم، ولا يمكنهم أن يكشفوا عمّا في باطنهم لما هم عليه من الهلع والفزع، وحيث أنّهم لا يخافون الله لعدم إيمانهم به، فهم يخافون من كل شيء غيره، ويعيشون في استيحاش دائم، غير أنّ المؤمنين الصادقين ينعمون في ظل الإِيمان بالهدوء والاطمئنان.