{ يُصْلِحْ } الله - تعالى - { لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } بأن يجعلها مقبولة عنده { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } التى فرطت منكم ، بأن بمحوها عنكم ببركة استقامتكم فى أقوالكم وأفعالكم .
{ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } فى كل الأقوال والأعمال { فَقَدْ فَازَ } فى الدارين { فَوْزاً عَظِيماً } لا يقادر قدره ، ولا يعلم أحد كنهه وعلو منزلته .
ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك ، أثابهم عليه بأن يصلح لهم أعمالهم ، أي : يوفقهم للأعمال الصالحة ، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية . وما قد يقع منهم في المستقبل يلهمهم التوبة منها .
ثم قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } : وذلك أنه يجار من النار ، ويصير إلى النعيم المقيم .
بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم ورَبأَ بِهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم ، وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتَّسِموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المنكر التلبّسُ بالمحامد ، والتقوى جماع الخير في العمل والقول . والقول السديد مبثّ الفضائل .
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإِصغاء إليه . ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإِيماء يقتضي ما سيؤمرون به . ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم قصداً ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون ، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شُعَب التقوى كما هو من شعب الإِيمان .
والقول : الكلام الذي يصدر من فم الإِنسان يعبر عما في نفسه . والسديد : الذي يوافق السداد . والسداد : الصواب والحقُ ومنه تسديد السهم نحو الرمية ، أي عدم العدول به عن سمْتها بحيث إذا اندفع أصابها ، فشمل القولُ السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي يحبّه : إني أحبك .
والقول يكون باباً عظيماً من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر . وفي الحديث : « وهل يَكُبّ الناس في النار على وجوههم إلاّ حصَائِد ألسنتهم » ، وفي الحديث الآخر : « رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم » ، وفي الحديث الآخر : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت » .
ويشمل القولُ السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء ، وما هو تبليغ لإِرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء . فقراءة القرآن على الناس من القول السديد ، ورواية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد . وفي الحديث : « نضَّر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها » وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأيمة الفقه . ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح . ومن القول السديد الأذان والإِقامةُ قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب } في سورة فاطر [ 10 ] . فبالقول السديد تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها ، وبالقول السيّئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً . والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ولما في التقوى والقولِ السديد من وسائل الصلاح جُعل للآتي بهما جزاءٌ بإِصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب . وهو نشر على عكس اللف ، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد .
وغفرانُ الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة ، والتحولُ عن المعاصي بعدَ الهمّ بها ضرب من مغفرتها .
ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كان عائدين على الذين آمنوا كانا عامَّيْن لكل المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولاً سديداً أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين ، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولاً سديداً والعاملين به من سامعيه ، وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قولَ غيره . وفي الحديث : « فَرَّب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » ، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول ، وكذلك التقوى تكون سبباً لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسياً أو حياء فتتعطل بعض المعاصي ، وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر .
وذكر { لكم } مع فعلي { يصلح -ويَغفر } للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى : { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] .
وجملة { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً } عطف على جملة { يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم } أي وتفوزوا فوزاً عظيماً إذا أطعتم الله بامتثال أمره . وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإِفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل . وهذا نسج بديع من نظم الكلام وهو إفادة غرضين بجملة واحدة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله: "يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالَكُمْ "يقول تعالى ذكره للمؤمنين: اتقوا الله وقولوا السداد من القول، يوفقكم لصالح الأعمال، فيصلح أعمالكم "وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ: يقول: ويعف لكم عن ذنوبكم، فلا يعاقبكم عليها.
"وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ "فيعمل بما أمره به، وينتهي عما نهاه، ويقل السديد "فَقَدْ فازَ فَوْزا عَظِيما" يقول: فقد ظفر بالكرامة العظمى من الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: يصلحها بالقبول. الثاني: بالتوفيق.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(ويغفر لكم ذنوبكم) أي: يسترها ويعف عنها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها، بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان؛ ليترادف عليهم النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
... طاعة الله هي طاعة الرسول، ولكن جمع بينهما لبيان شرف فعل المطيع فإنه يفعله الواحد اتخذ عند الله عهدا وعند الرسول يدا.
{فقد فاز فوزا عظيما} جعله عظيما من وجهين؛
أحدهما: أنه من عذاب عظيم والنجاة من العذاب تعظم بعظم العذاب.
والثاني: أنه وصل إلى ثواب كثير وهو الثواب الدائم الأبدي.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{فقد فاز فوزا عظيما} يعيش في الدنيا حميدا في الآخرة سعيدا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يصلح لكم أعمالكم} أي بأن يدخلكم في العمل الصالح وأنتم لا تعلمون ما ينبغي من كيفيته، فيبصركم بها شيئاً فشيئاً ويوفقكم للعمل بما جلاه لكم حتى تكونوا على أتم وجه وأعظمه وأرضاه وأقومه ببركة قولكم الحق على الوجه الحسن الجميل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويوجههم إلى القول الصالح الذي يقود إلى العمل الصالح، فالله يرعى المسددين ويقود خطاهم ويصلح لهم أعمالهم جزاء التصويب والتسديد، والله يغفر لذوي الكلمة الطيبة والعمل الصالح؛ ويكفر عن السيئة التي لا ينجو منها الآدميون الخطاؤون، ولا ينقذهم منها إلا المغفرة والتكفير.
(ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما).. والطاعة بذاتها فوز عظيم. فهي استقامة على نهج الله. والاستقامة على نهج الله مريحة مطمئنة. والاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الواصل سعادة بذاته، ولو لم يكن وراءه جزاء سواه؛ وليس الذي يسير في الطريق الممهود المنير، وكل ما حوله من خلق الله يتجاوب معه ويتعاون، كالذي يسير في الطريق المقلقل المظلم وكل ما حوله من خلق الله يعاديه ويصادمه ويؤذيه!
فطاعة الله ورسوله تحمل جزاءها في ذاتها؛ وهي الفوز العظيم، قبل يوم الحساب وقبل الفوز بالنعيم. أما نعيم الآخرة فهو فضل زائد على جزاء الطاعة، فضل من كرم الله وفيضه بلا مقابل، والله يرزق من يشاء بغير حساب.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} لأن الله يغفر للسائرين في طريق الرشاد والسداد الذي هو الطريق إليه، فإذا انحرفوا في بعض المراحل أو أخطأوا في بعض الأعمال، ثم استقاموا على الطريق وأصابوا في مضمون العمل، ذكر الله لهم جهدهم في الحق وإخلاصهم له فغفر لهم ذلك كله.