{ ونيسرك لليسرى } قال مقاتل : نهون عليك عمل أهل الجنة -وهو معنى قول ابن عباس- ونيسرك لأن تعمل خيراً . واليسرى : عمل الخير . وقيل : نوفقك للشريعة اليسرى وهي الحنيفية السمحة . وقيل : هو متصل بالكلام الأول معناه : أنه يعلم الجهر مما تقرؤه على جبريل إذا فرغ من التلاوة ، { وما يخفى } ما تقرأ في نفسك مخافة النسيان ، ثم وعده فقال : { ونيسرك لليسرى } يعني : نهون عليك الوحي حتى تحفظه وتعلمه .
وقوله - سبحانه - : { وَنُيَسِّرُكَ لليسرى } معطوف على قوله { سَنُقْرِئُكَ } وجملة : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } معترضة .
والتيسير بمعنى التسهيل والتخفيف ، وهو جعل العمل يسيرا على عامله بأن يهيئ الله - تعالى - للعامل الأسباب التى تهون له العسير ، وتقرب له البعيد .
واليسرى : مؤنث الأيسر ، بمعنى الأسهل ، والموصوف محذوف .
والمعنى : سنجعلك - أيها الرسول الكريم - صاحب ذاكرة قوية تحفظ القرآن ولا تنساه . وسنوفقك توفيقا دائما للطريقة اليسرى فى كل باب من أبواب الدين : علما وعملا ، واهتداء وهداية - وسنرزقك الأمور الحسنة التى تجعلك تعيش سعيدا فى دنياك ، وظافرا برضواننا فى أخراك .
ولقد أنجز الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم وعده ، حيث أعطاه شريعة سمحة ، ومنحه أخلاقا كريمة ، من مظاهرها أنه صلى الله عليه وسلم ما خير بين الأمرين إلا اختار أيسرهما ، ودعا أتباعه إلى الأخذ بمبدأ التيسير ، فقال : " يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا . . " .
فهاتان بشارتان عظيمتان للرسول صلى الله عليه وسلم أولاهما : تتمثل فى إلهامه الذاكرة الواعية الحافظة لما يوحى إليه . وثانيتهما : توفيقه صلى الله عليه وسلم إلى الشريعة اليسرى ، وإلى الأخلاق الكريمة وإلى الأخذ بما هو أرفق وأيسر فى كل أحواله .
بشرى لشخص الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين ، وحقيقة هذه الدعوة ، ودورها في حياة البشر ، وموضعها في نظام الوجود . . وإن هاتين الكلمتين : ( ونيسرك لليسرى ) ، لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة ، وحقائق هذا الوجود أيضا . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود . الوجود الخارج من يد القدرة في يسر . السائر في طريقه بيسر . المتجه إلى غايته بيسر . فهي انطلاقة من نور ؛ تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود . .
إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا . يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه . . إلى الله . . فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير - وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير - يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص ، ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص . اليسر في يده . واليسر في لسانه . واليسر في خطوه . واليسر في عمله . واليسر في تصوره . واليسر في تفكيره . واليسر في أخذه للأمور . واليسر في علاجه للأمور . اليسر مع نفسه واليسر مع غيره .
وهكذا كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في كل أمره . . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة - رضي الله عنها - وكما قالت عنه : " كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إذا خلا في بيته ألين الناس ، بساما ضحاكا " وفي صحيح البخاري : " كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتنطلق به حيث شاءت " !
وفي هديه [ صلى الله عليه وسلم ] في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة . جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية ، عن هديه [ صلى الله عليه وسلم ] في " ملابسه " : " كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليا ، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة . وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة ، ويلبس العمامة بغير قلنسوة . وكان إذا أعتم أرخى عمامته بين كتفيه - كما رواه مسلم في صحيحه . عن عمر بن حريث قال : رأيت رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه . وفي مسلم أيضا عن جابر ذؤابة ، فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه . وقد يقال : إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه " .
وفي فصل آخر قال : " والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها . وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس . من الصوف تارة ، والقطن تارة ، والكتان تارة ، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر . ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة . . الخ " . .
وقال في هديه في الطعام : " وكذلك كان هديه [ صلى الله عليه وسلم ] وسيرته في الطعام ، لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا . فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله - إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم - وما عاب طعاما قط . إن اشتهاه أكله ، وإلا تركه ، كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ، ولم يحرمه على الأمة ، بل أكل على مائدته وهو ينظر . وأكل الحلوى والعسل - وكان يحبهما - وأكل الرطب والتمر ، وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء ، وشرب نقيع التمر ، وأكل الخزبرة - وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق - وأكل القثاء بالرطب ، وأكل الأقط ، وأكل التمر بالخبز ، وأكل الخبز بالخل ، وأكل القديد ، وأكل الدباء المطبوخة - وكان يحبها - وأكل المسلوقة ، وأكل الثريد بالسمن ، وأكل الجبن ، وأكل الخبز بالزيت ، وأكل البطيخ بالرطب . وأكل التمر بالزبد - وكان يحبه - ولم يكن يرد طيبا ولا يتكلفه ، بل كان هديه أكل ما تيسر ، فإن أعوزه صبر . . . الخ " .
وقال عن هديه في نومه وانتباهه : " كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة ، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رماله ، وتارة على كساء أسود " . .
وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور - وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها - كثيرة جدا يصعب تقصيها . من هذا قوله [ صلى الله عليه وسلم ] : " إن هذا الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " [ أخرجه البخاري ] . . " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم . . . " [ أخرجه أبو داود ] . . " إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " [ أخرجه البخاري ] . . " يسروا ولا تعسروا " [ أخرجه الشيخان ] .
وفي التعامل : " رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " [ أخرجه البخاري ] " المؤمن هين لين " [ أخرجه البيهقي ] " المؤمن يألف ويؤلف " [ أخرجه الدارقطني ] . " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " [ أخرجه الشيخان ] .
ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته [ صلى الله عليه وسلم ] للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه ، مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعا وتكوينا . . عن سعيد بن المسيب عن أبيه - رضي الله عنه - أنه جاء للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : " ما اسمك ? " قال : حزن [ أي صعب وعر ] قال : " بل أنت سهل " . قال : لا أغير اسما سمانيه أبي ! قال ابن المسيب رحمه الله : " فما زالت فينا حزونة بعد " ! [ أخرجه البخاري ] . . " وعن ابن عمر رضي الله عنهما - أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] غير اسم عاصية وسماها جميلة " [ أخرجه مسلم ] . ومن قوله : " إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " [ أخرجه الترمذي ] . .
فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها ، ويميل بها إلى اليسر والهوادة !
وسيرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا .
وهذا مثل من علاجه للنفوس ، يكشف عن طريقته [ صلى الله عليه وسلم ] وطبيعته :
" جاءه أعرابي يوما يطلب منه شيئا فأعطاه . قال له : أحسنت إليك ? قال الأعرابي : لا . ولا أجملت ! فغضب المسلمون ، وقاموا إليه ؛ فأشار إليهم أن كفوا . ثم دخل منزله ، وأرسل إلى الأعرابي ، وزاده شيئا . ثم قال : أحسنت إليك ? قال : نعم . فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيرا . فقال له النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك ، فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي ، حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك . قال : نعم . فلما كان الغداة جاء ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : إن هذا الأعرابي قال ما قال ، فزدناه ، فزعم أنه رضي . أكذلك ? قال الأعرابي : نعم ، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه ، فتبعها الناس ، فلم يزيدوها إلا نفورا ، فناداهم صاحب الناقة : خلوا بيني وبين ناقتي ، فإني أرفق بها وأعلم . فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها ، فأخذ لها من قمام الأرض ، فردها هونا هونا ، حتى جاءت واستناخت ، وشد عليها رحلها ، واستوى عليها . وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار " . .
فهكذا كان أخذه [ صلى الله عليه وسلم ] للنفوس الشاردة . بهذه البساطة ، وبهذا اليسر ، وبهذا الرفق وبهذا التوفيق . . والنماذج شتى في سيرته كلها . وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفيدعوته وفي أموره جميعا . .
هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة . فتكون طبيعتها من طبيعتها ، وحقيقتها من حقيقتها ، وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها - بتيسير الله وتوفيقه - على ضخامتها . . . حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل ، إلى عمل محبب ، ورياضة جميلة ، وفرح وانشراح . .
وفي صفة محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ، وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . . ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف ، وينهاهم عن المنكر ، ويحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم )فقد جاء [ صلى الله عليه وسلم ] رحمة للبشرية . جاء ميسرا يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم ، حينما شددوا فشدد عليهم .
وفي صفة الرسالة التي حملها ورد : ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر . . ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) . . ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) . . ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم )فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجا ولا مشقة . وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها ( فطرة الله التي فطر الناس عليها ) .
وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية ، والحالات المختلفة للإنسان ، والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال . . العقيدة ذاتها سهلة التصور . إله واحد ليس كمثله شيء . أبدع كل شيء ، وهداه إلى غاية وجوده . وأرسل رسلا تذكر الناس بغاية وجودهم ، وتردهم إلى الله الذي خلقهم . والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف . وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " . . والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة : إلا ما اضطررتم إليه . . وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف . . .
ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة ، والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة . في هذه السمة الأصيلة البارزة . وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة . فهي الأمة الوسط ، وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة . الميسرة الحاملة لليسر . . تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير . .
وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك . . ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتنساب في مداراتها متناسقة متجاذبة . لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد . . وملايين الملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي احكام . وكل منها ميسر لما خلق له ، سائر في طريقه إلى غاية . وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات ، لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد !
إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود ، وطبيعة الرسالة ، وطبيعة الرسول ، وطبيعة الأمة المسلمة . . صنعة الله الواحد ، وفطرة المبدع الحكيم .
عطف على { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] . وجملة { إنه يعلم الجهر وما يخفى } [ الأعلى : 7 ] معترضة كما علمت . وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايراً لمفهوم التيسير لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له .
والتيسير : جعل العمل يسيراً على عامله .
ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يُجعل يسيراً ، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيءُ المجعول الفعل يسيراً لأجله مجروراً باللام كقوله تعالى : { ويسر لي أمري } [ طه : 26 ] .
واليُسْرى : مؤنث الأيسر ، وصيغة فُعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفْعَل .
والموصوف محذوف ، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمِه مؤنثاً بأن يَكون مفرداً فيه علامَة تأنيث أو يكون جمعاً إذ المجموع تَعَامَل معاملة المؤنث . فكان الوصف المؤنث منادياً على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه ، وسياقُ الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدَّر معنَى الشريعة فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعًى فيه وصفه العُنواني وهوَ أنه رسول فلا جرم أن يكون أول شؤونه هو ما أرسل به وهو الشريعة .
وقوله : { ونيسرك لليسرى } إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون . فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير ، أي قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليُسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به ، أي نُهيئك للأمور اليسرى في أمر الدّين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلتَ بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة . وهذه الاستعارة تحسِّنها المشاكلة .
ومعنى اللام في قوله : { لليسرى } العلةُ ، أي لأجل اليسرى ، أي لقبولها ، ونحوُه قول النبي صلى الله عليه وسلم " كلٌّ مُيَسرٌ لِما خُلق له " وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى : { فسنيسره لليسرى } وقوله : { فسنيسره للعسرى } في سورة الليل ( 7 10 ) .
ويجوز أن يجعل الكلام جارياً على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل : ونيسر لك اليسرى ، أي نجعلها سهلة لك فلا تشقّ عليك فيبقى فعل : « نيسرك » على حقيقته ، وإنما خولف عَمله في مفعوله والمجرورِ المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرورِ المتعلق به .
وفي وصفها ب { اليسرى } إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جُعلت يسرى ، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى .
فاشتمل الكلام على تيسيرين : تيسير ما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم أي جعله يسيراً مع وفائه بالمقصود منه ، وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به .
ويوجَّه العدول عن مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه ، بأنَّ فيه تنزيلَ الشيء الميسّر منزلة الشيء الميسَّر له والعكسَ للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبوللِ كقول العرب : « عَرضْتُ الناقةَ على الحوض » ، وقول العجاج :
وَمهْمَهٍ مُغْبَرّةٍ أرجاؤُه *** كأن لونَ أرضِه سماؤُه
وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى : { ما إنَّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة } [ القصص : 76 ] ومنه القلب التشبيه المقلوب .
والمعنى : وعْد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطميناً له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقاً أن لا يفي بواجباتها . أي أن الله جعله قابلاً لتلقّي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها .
ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيْسرهما » وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « إنما بعثتم مُيَسِّرين لا مُعسِّرين » .