2 - قال نوح : يا قوم إني لكم نذير مُبَيِّن رسالة ربكم بلغة تعرفونها ، أن أطيعوا الله واخضعوا له في أداء الواجبات ، وخافوه بترك المحظورات ، وأطيعوني فيما أنصح لكم به ، يغفر الله لكم ذنوبكم ويُمد في أعماركم إلى أجل مسمى جعله غاية الطول في العمر ، إن الموت إذا جاء لا يؤخر أبداً ، لو كنتم تعلمون ما يحل بكم من الندامة عند انقضاء أجلكم لآمنتم .
ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك ما قاله نوح لقومه فقال : { قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ . أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ } .
أى : قال نوح لقومه -على سبيل التلطف فى النصح ، والتقرب إلى قلوبهم - يا قوم ويا أهلى وعشيرتى : إنى لكم منذر واضح الإِنذار ، ولا أسألكم على هذا الإِنذار الخالص أجرا ، وإنما ألتمس أجرى من الله .
وإنى آمركم بثلاثة أشياء : أن تخلصوا لله - تعالى - العبادة ، وأن تتقوه فى كل أقوالكم وأفعالكم ، وأن تطيعونى فى كل ما آمركم به وأنهاكم عنه .
وافتتح كلامه معهم بالنداء { قَالَ ياقوم } ، أملا فى لفت أنظارهم إليه ، واستجابتهم له ، فإن النداء من شأنه التنبيه للمنادىَ .
ووصف إنذاره لهم بأنه { مُّبِينٌ } ، ليشعرهم بأنه لا لبس فى دعوته لهم إلى الحق ، ولا خفاء فى كونهم يعرفونه ، ويعرفون حرصه على منفعتهم . .
وقال : { إِنِّي لَكُمْ } للإِشارة إلى أن فائدة استجابتهم له ، تعود عليهم لا عليه ، فهو مرسل من أجل سعادتهم وخيرهم .
وأمرهم بطاعته ، بعد أمرهم بعبادة الله وتقواه ، لأن طاعتهم له هى طاعة الله - تعالى - كما قال - تعالى - : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله }
ومن مشهد التكليف ينتقل السياق مباشرة إلى مشهد التبليغ في اختصار ، البارز فيه هو الإنذار ، مع الإطماع في المغفرة على ما وقع من الخطايا والذنوب ؛ وتأجيل الحساب إلى الأجل المضروب في الآخرة للحساب ؛ وذلك مع البيان المجمل لأصول الدعوة التي يدعوهم إليها :
( قال : يا قوم إني لكم نذير مبين . أن اعبدوا الله ، واتقوه ، وأطيعون . يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى . إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون ) . .
يا قوم إني لكم نذير مبين . . مفصح عن نذارته ، مبين عن حجته ، لا يتمتم ولا يجمجم ، ولا يتلعثم في دعوته ، ولا يدع لبسا ولا غموضا في حقيقة ما يدعو إليه ، وفي حقيقة ما ينتظر المكذبين بدعوته .
يقول تعالى مخبرا عن نوح ، عليه السلام ، أنه أرسله إلى قومه آمرا له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم ؛ ولهذا قال : { أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : بين النذارة ، ظاهر الأمر واضحه .
لم تعطف جملة { قال يا قوم } بالفاء التفريعية على جملة { أرسلنا نوحاً إلى قومه } [ نوح : 1 ] لأنها في معنى البيان لجملة { أنذر قومك } [ نوح : 1 ] لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم ، وإنما أُدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أُمر أن يقول فقال ، تنبيهاً على مبادرة نوح لإِنذار قومه في حين يلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه .
ولك أن تجعلها استئنافاً بيانياً لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه { أن أنذر قومك ، وهما متقاربان .
وافتتاح دعوته قومَه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم ونداؤهم بعنوان : أنهم قومه ، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلاّ ما يريد لنفسه . وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر .
والنذير : المنذر غير جار على القياس ، وهو مثل بشير ، ومثل حكيم بمعنى محكم ، وأليم بمعنى مؤلم ، وسميع بمعنى مسمع ، في قول عَمرو بن معديكرب :
وقد تقدم في أول سورة البقرة ( 10 ) عند قوله : { ولهم عذاب أليم } وحذف متعلق { نذير } لدلالة قوله : { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } عليه . والتقدير : إنّي لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقُوه ولم تطيعوني .
والمبين : يجوز أن يكون من أبان المتعدّي الذي مجرده بَانَ ، أي مُوَضِّح أو مِن أبان القاصر ، الذي هو مرادف بَان المجردِ ، أي نذير وَاضح لكم أني نذير ، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم ، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء ( 109 ، 110 ) { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين فاتقوا الله وأطيعون } . وتقديم { لكم } على عامله وهو { نذير } للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته .
فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات ، وهي : النداءُ وجعلُ المنادَى لفظ { يا قوم } المضاف إلى ضميره ، وافتتاحُ كلامه بحرف التأكيد ، واجتلابُ لام التعليل ، وتقديمُ مجرورها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ف {قال يا قوم إني لكم نذير} من العذاب {مبين} يعني بيّن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه: يا قوم إني لكم نذير مبين، أنذركم عذاب الله فاحذروه أن ينزل بكم على كفركم به" مبين "يقول: قد أبنت لكم إنذاري إياكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي مبين لما يقع به الإنذار والتخويف، فتكون الإبانة منصرفة إلى النذارة. ويحتمل أن يكون هذا الوصف راجعا على نفسه خاصة، كأنه قال: إني نذير لكم مبين أي إني لم أقم في دعائي إياكم إلى عبادة الله تعالى وإنذاركم من عند نفسي، ولكن بما اختصني الله تعالى وولاني ذلك.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم حكى أن نوحا عليه السلام امتثل ما أمره الله به و قال لقومه (يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه) أي مخوفكم عبادة غير الله وأحذركم معصية الله مظهر ذلك لكم.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
{قَالَ يا قوم} أضافهم إلى نفسه إظهاراً للشفقة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أخبر عن رسالته ومضمونها بما أعلم من أن الفساد كان غالباً عليهم، استأنف قوله بياناً لامتثاله: {قال} أي نوح عليه السلام: {يا قوم} فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم. ولما كان من طبع البشر إنكار ما لم يعلم إلا من عصم الله فجعله منقاداً للإيمان بالغيب، أكد قوله: {إني لكم نذير} أي مبالغ في النذارة {مبين} أي أمري بين في نفسه بحيث أنه صار من شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه، مناد بذلك للقريب والبعيد والفطن والغبي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومن مشهد التكليف ينتقل السياق مباشرة إلى مشهد التبليغ في اختصار، البارز فيه هو الإنذار، مع الإطماع في المغفرة على ما وقع من الخطايا والذنوب؛ وتأجيل الحساب إلى الأجل المضروب في الآخرة للحساب؛ وذلك مع البيان المجمل لأصول الدعوة التي يدعوهم إليها: (قال: يا قوم إني لكم نذير مبين. أن اعبدوا الله، واتقوه، وأطيعون. يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى. إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون).. يا قوم إني لكم نذير مبين.. مفصح عن نذارته، مبين عن حجته، لا يتمتم ولا يجمجم، ولا يتلعثم في دعوته، ولا يدع لبسا ولا غموضا في حقيقة ما يدعو إليه، وفي حقيقة ما ينتظر المكذبين بدعوته.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
افتتاح دعوته قومَه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم، ونداؤهم بعنوان: أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه، إذ لا يريد الرجل لقومه إلاّ ما يريد لنفسه. وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر.