ثم تمضى السورة الكريمة بعد ذلك ، فى بيان مصير هذه الروح ، التى توشك أن تستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية فتقول : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } .
والروح : بمعنى الراحة والأمان والاطمئنان والريحان شجر طيب الرائحة .
أى : فأما إن كان صاحب هذه النفس التى فارقت الدنيا ، من المقربين إلينا السابقين بالخيرات . . . فله عندنا راحة لا تقاربها راحة ، وله رحمة واسعة ، وله طيب رائحة عند قبض روحه ، وعند نزوله فى قبره ، وعند وقوله بين أيدينا للحساب يوم الدين ، وله جنات ينعم فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
ثم يمضي السياق في بيان مصير هذه الروح الذي يتراءى لها من بعيد حين تبلغ الحلقوم ، وتستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية . وتمضي إلى الدينونة التي يكذب بها المكذبون :
( فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة نعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين ، فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم . وتصلية جحيم ) .
لما اقتضى الكلام بحذافره أن الإِنسان صاحب الروح صائر إلى الجزاء فرع عليه إجمال أحوال الجزاء في مراتب الناس إجمالاً لما سبق تفصيله بقوله : { وكنتم أزواجاً ثلاثة إلى قوله : { لا بارد ولا كريم } [ الواقعة : 7 44 ] ليكون هذا فذلكة للسورة وردّاً لعجزها على صدرها .
فضمير { إن كان } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { إليه } من قوله : { ونحن أقرب إليه منكم } [ الواقعة : 85 ] .
والمقربون هم السابقون الذين تقدم ذكرهم في قوله تعالى : { والسابقون السابقون أولئك المقربون } [ الواقعة : 85 ] وأصحاب اليمين قد تقدم والمكذبون الضالون : هم أصحاب الشمال المتقدم ذكرهم .
وقد ذكر لكل صنف من هؤلاء جزاء لم يُذكر له فيما تقدم ليضم إلى ما أعدّ له فيما تقدم على طريقة القرآن في توزيع القصة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأما إن كان} هذا الميت {من المقربين} عند الله في الدرجات والتفضيل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"فأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرّبِينَ فَرَوْحَ وَرَيْحانٌ" يقول تعالى ذكره: فأما إن كان الميت من المقرّبين الذين قرّبهم الله من جواره في جنانه "فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ" يقول: فله روح وريحان. واختلف القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار "فَرَوْحٌ" بفتح الراء، بمعنى: فله برد "وَرَيْحانٌ" يقول: ورزق واسع... بمعنى: فله الرحمة والمغفرة، والرزق الطيب الهنّي...
وأصله من قولهم: وجدت رَوْحا: إذا وجد نسيما يَسَترْوح إليه من كَرَبِ الحرّ. وأما الرّيحان، فإنه عندي الريحان الذي يُتَلقى به عند الموت، وقوله: "وَجَنّةُ نَعِيمٍ" يقول: وله مع ذلك بستان نعيم يتنعم فيه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
[{فأما إن كان من المقربين} {فروح وريحان وجنات نعيم} {وأما إن كان من أصحاب اليمين} {فسلام لك من أصحاب اليمين}] [الآيات: 88 – 91 يقال للمؤمنين عند الموت بشارة لهم بما يكون لهم في الجنة. ومنهم من يقول: إنما يقال ذلك إذا دخل هؤلاء الجنة وأولئك النار؛ أعني الكافرين، وهو ما ذكر: {وأما إن كان من المكذبين الضالين} {فنزل من حميم} {وتصلية جحيم} [الآيات: 92 إلى 94]. وجائز أن يكون يقال ذلك للمؤمنين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة وهو وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومن} عنده في الجنة ومكانهم لديه على ما كانوا في الدنيا: المقربون عنده ومكانهم لديه أقرب من مكان غيرهم من المؤمنين. فعلى ذلك يخبر أن السابقين في الإجابة يكونون في الآخرة عنده أقرب. ويكون قوله: {فروح وريحان} أي يستأنس هو بهم، ويستأنسون به، لا يفارقونه، ولا يفارقهم، على ما كانوا في الدنيا. ويحتمل ما ذكر بعضهم أن ذلك يقال لهم بعد ما دخل أهل الجنة الجنة وأصحاب النار النار، والله أعلم.وقال بعضهم: الروح كناية عن دوام النعمة والسعة؛ يقال: فلان في روح إذا كان في سعة ونعمة، والريحان كناية عن الشرف والمنزلة؛ يقال: فلان ريحاني، وذلك لشرفه ومنزلته.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
المقَرَّبون هم الذين قرَّبهم اللَّهُ بفضله، فلهم {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{مِنَ الْمُقَرَّبِينَ}، وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات، وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فأما إن كان} أي الميت منهم {من المقربين} أي السابقين الذين اجتذبهم الحق من أنفسهم فقربهم منه فكانوا مرادين قبل أن يكونوا مريدين، وليس القرب قرب مكان لأنه تعالى منزه عنه، وإنما هو بالتخلق بالصفات الشريفة على قدر الطاقة البشرية ليصير الإنسان روحاً خالصاً كالملائكة لا سبيل للحظوظ والشهوات عليه، فإن قربهم إنما هو بالانخلاع من الإرادة أصلاً ورأساً، وذلك أنه لا شهوات لهم فلا أغراض فلا فعل إلا ما أمروا به فلا إرادة، إنما الإرادة للمولى سبحانه وهو معنى {وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} [النحل: 90] أي مطلق الإرادة في غير أمر من الله، لأن المملوك الذي هو لغيره لا ينبغي أن يكون له شيء لا إرادة ولا غيرها -وفقنا الله تعالى لذلك.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والرَّوْح: -بفتح الراء- في قراءة الجمهور، وهو الراحة، أي فرَوْح له، أي هو في راحة ونعيم، وتقدم في قوله: {ولا تيأسوا من روح الله} في سورة يوسف (87). وقرأه رويس عن يعقوب بضم الراء. ورويت هذه القراءة عن عائشة عن النبي عند أبي داود والترمذي والنسائي، أي أن رسول الله روي عنه الوجهان، فالمشهور روي متواتراً، والآخر روي متواتراً وبالآحاد، وكلاهما مراد.
ومعنى الآية على قراءة ضم الراء: أن روحه معها الريحان وهو الطيب وجنة النعيم. وقد ورد في حديث آخر: أن رُوح المؤمن تخرج طيبة. وقيل: أطلق الرُّوح بضم الراء على الرحمة لأن من كان في رحمة الله فهو الحيّ حقاً، فهو ذو روح، أما من كان في العذاب فحياته أقل من الموت، قال تعالى: {لا يموت فيها ولا يحيى} [الأعلى: 13]، أي لأنه يتمنى الموت فلا يجده.
والريحان: شجر لورقة وقضبانه رائحة ذكية شديد الخضرة كانت الأمم تزين به مجالس الشراب. قال الحريري « وطوراً يستبزل الدنان، ومرة يستنثق الريحان» وكانت ملوك العرب تتخذهُ...
وتقدم عند قوله تعالى: {والحب ذو العصف والريحان} في سورة الرحمن (12)، فتخصيصه بالذكر قبل ذكر الجنة التي تحتوي عليه إيماء إلى كرامتهم عند الله، مثل قوله: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 23، 24].
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وعادت الآيات الكريمة إلى الحديث عن الأصناف الثلاثة الذين ينقسم إليهم البشر يوم القيامة، دون أي اعتبار خاص في التقسيم والتصنيف، ما عدا اعتبار العمل الذي قاموا به في الدنيا، والجزاء الذي استحقوه في الآخرة.