وقوله - سبحانه - { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } اعتراف من إبليس بأن من عباد الله - تعالى - قومًا لا يستطيع أن يغويهم ، ولا يقدر على إضلالهم .
وكلمة { المخلصين } قرأها نافع وحمزة وعاصم والكسائى - بفتح اللام - ، فيكون المعنى : لأغوينهم أجمعين إلا عبادك الذين استخلصتهم لطاعتك ، وصنتهم عن اقتراف ما نهيتهم عنه .
وقرأها ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو - بكسر اللام - ، فيكون المعنى : لأضلنهم جميعًا ، إلا عبادك الذين أخلصوا لك العمل ، وابتعدوا عن الرياء في أقوالهم وأفعالهم .
وهذا الاستثناء الذي اعترف به إبليس بعد أن أدرك أنه لا محيص له عنه - هو سنة الله - تعالى - في خلقه ، فقد جرت سنته التي لا تغيير ولا تبديل لها ، بأن يستخلص لذاته من يخلص له قلبه ، وأن يرعى من يرعى حدوده ، ويحفظ من يحفظ تكاليفه ،
ولذا كان جوابه - سبحانه - على إبليس ، هو قوله - تعالى - { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } .
إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته ، فليس للشيطان - بشرطه هو - على عباد الله المخلصين من سبيل :
( ولأغوينهم أجمعين . إلا عبادك منهم المخلصين ) . .
والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله ، ويجردها له وحده ، ويعبده كأنه يراه . وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان .
هذا الشرط الذي قرره إبليس - اللعين - قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه ، لأنه سنة الله أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه ، وأن يحميه ويرعاه .
يقول تعالى مخبرًا عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب : { بِمَا أَغْوَيْتَنِي } قال بعضهم : أقسم بإغواء الله له .
قلت : ويحتمل أنه بسبب ما أغويتني وأضللتني { لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ } أي : لذرية آدم ، عليه السلام { فِي الأرْضِ } أي : أحبب إليهم المعاصي وأرغّبهم فيها ، وأؤزّهم إليها ، وأزعجهم إزعاجًا ، { وَلأغْوِيَنَّهُمْ } أي : كما أغويتني ونَدَّرت على ذلك ، { أَجْمَعِينَ إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } كَمَا قَالَ { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا } [ الإسراء : 62 ]
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم استثنى عدو الله إبليس، فقال: {إلا عبادك منهم المخلصين} يعني: أهل التوحيد، وقد علم إبليس أن الله استخلص عبادا لدينه، ليس له عليهم سلطان...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 39]
يقول تعالى ذكره: قال إبليس:"رَبّ بِمَا أغْوَيْتَني": بإغوائك "لأُزَيّنَنّ لَهُمْ فِي الأرْضِ". وكأن قوله: "بِما أغْوَيْتَني "خرج مخرج القسم، كما يقال: بالله، أو بعزّة الله لأغوينهم. وعنى بقوله: "لأُزَيّنَنّ لَهُمْ فِي الأرْضِ": لأحسننّ لهم معاصيك، ولأحببنها إليهم في الأرض، "ولأُغْوِيَنّهُمْ أجمَعِينَ "يقول: ولأضلّنهم عن سبيل الرشاد، "إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ" يقول إلا من أخلصته بتوفيقك فهديته، فإن ذلك ممن لا سلطان لي عليه ولا طاقة لي به. وقد قرىء: «إلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلِصِينَ» فمن قرأ ذلك كذلك، فإنه يعني به: إلا من أخلص طاعتك، فإنه لا سبيل لي عليه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إلا عبادك منهم المخلصين}، المخلَص -بنصب اللام- هو الذي أخلصه الله وحفظه وعصمه واختصه بذلك، والمخلصون: لا يقال إلا بعد أن يكون لله فيهم صنع، ولهم اختصاص وفضائل، اختصهم الله بذلك برحمته وفضله. والمخلِص -بخفض اللام- هو الذي أخلص له الاعتقاد والعمل والدعاء.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الذين أخلصوا عبادتهم لله وامتنعوا من إجابة الشيطان، في ارتكاب المعاصي، لأنه ليس للشيطان عليهم سبيل، كما قال تعالى "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان "يعني: عباد الله الذين فعلوا ما أمرهم به وانتهوا عما نهاهم عنه... ومن كسر اللام فلقوله "وأخلصوا دينهم لله" ومن فتحها أراد ان الله أخلصهم بأن وفقهم لذلك، ولطف لهم فيه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الإخلاصُ هو تصفيةُ الأعمالُ عن الغَيْر وعن الآفات المانعة من صالح الأعمال. وقد عَلِمَ اللعينُ أنه لا سبيل له إليهم بالإغواء لمَّا تَحَقَقَ من عناية الحقِّ بشأنهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
استثنى المخلصين؛ لأنه علم أنّ كيده لا يعمل فيهم ولا يقبلون منه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{إلا عبادك منهم} أي المشرفين بالإضافة إليك، فهم لذلك لا يميلون عنك إلى شيء سواك، فلذلك أبدل منهم {المخلصين} فزاد بهذا الكلام في الضلال، ولم يقدر أن يقول بدل ذلك: ربّ تب عليّ -ونحوه من الاستعطاف كما قال آدم عليه السلام لما حفه اللطف وداركه العفو، فارعوا هذه النعمة! والإخلاص: إفراد الشيء عما يشوبه من غيره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إلا أن يتصلوا بالله ويعبدوه حق عبادته، فليس للشيطان -بشرطه هو- على عباد الله المخلصين من سبيل: (ولأغوينهم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين).. والله يستخلص لنفسه من عباده من يخلص نفسه لله، ويجردها له وحده، ويعبده كأنه يراه. وهؤلاء ليس للشيطان عليهم من سلطان. هذا الشرط الذي قرره إبليس -اللعين- قرره وهو يدرك أن لا سبيل إلى سواه، لأنه سنة الله أن يستخلص لنفسه من يخلص له نفسه، وأن يحميه ويرعاه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} الذين أدركوا الحقيقة في عمق المعرفة، فأخلصوا لك من خلال صفاء العقيدة، وروحيّة الإيمان، وصلابة الموقف، وصدق الالتزام، فراقبوك في سرِّهم وعلانيتهم، فخلصت لك نيّاتهم وأعمالهم، وأحسّوا تجاه ربوبيتك المطلقة إحساس العبودية المطلقة، فكان لهم في طاعتك شأنٌ عظيمٌ، وفي الإخلاص لك دورٌ كبير، حتى تحوّلت الحياة عندهم إلى موقف عبادةٍ، في كل حركة حياة، فلم أستطع النفاذ إليهم من أيّة زاويةٍ من زوايا فكرهم، ولم أتمكن من الدخول إلى خلفيّات مواقفهم، أو إلى عمق مشاعرهم، ولم أقترب من أحلامهم وتطلعاتهم وأهدافهم في الحياة، لأنهم كانوا معك في كل ذلك، فلم يتركوا لي فراغاً أملك فيه حرية الحركة، وإمكانات الإغواء والإضلال.. هؤلاء الذين أعطاهم الإيمان قوّةً روحيّةً في الداخل، فاستطاعوا أن يحققوا لحياتهم مناعة في الخارج. هؤلاء لا يملك الغي إليهم سبيلاً، ولا يلتقي بهم الانحراف في أيّ موقعٍ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من البديهي أنّ اللّه سبحانه منزّه عن تضليل خلقه، إِلاّ أنّ محاولة إِبليس لتبرير ضلاله وتبرئة نفسه جعلته ينسب ذلك إلى اللّه سبحانه وتعالى. هذا الموقف هو ديدن جميع الأبالسة والشياطين، فهم يلقون تبعة ذنوبهم على الآخرين أوّلاً ومن ثمّ يسعون لتبرير أعمالهم القبيحة بمنطق مغلوط ثانياً، والمصيبة أن مواقفهم تلك إِنّما يواجهون بها ربّ العزة والجبروت، وكأنّهم لا يعلمون أنّه لا تخفى عليه خافية. وينبغي ملاحظة أن «المخلصين» جمع مخلَص (بفتح اللام) وهو كما بيّناه في تفسير سورة يوسف المؤمن الذي وصل إلى مرحلة عالية من الإِيمان والعمل بعد تعلم وتربية ومجاهدة مع النفس، فيكون ممتنعاً من نفوذ وساوس الشيطان وأيّ وسواس آخر.