كما نستشف من قوله : ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) . مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم . وإدراكه كذلك لحقيقة القيم . فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص . إخلاص القلب كله لله ، وتجرده من كل شائبة ، ومن كل مرض ، ومن كل غرض . وصفائه من الشهوات والانحرافات . وخلوه من التعلق بغير الله . فهذه سلامته التي تجعل له قيمة ووزنا( يوم لا ينفع مال ولا بنون ) ؛ ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة ، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض ؛ وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير !
وقوله : { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ } أي : لا يقي المرء{[21780]} من عذاب الله ماله ، ولو افتدى بملء الأرض ذهبا : { وَلا بَنُونَ } ولو افتدى بِمَنْ في الأرض جميعا ، ولا ينفعُ يومئذ إلا الإيمانُ بالله ، وإخلاص الدين له ، والتبري من الشرك ؛ ولهذا قال : { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ }
و قوله : وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يقول : ولا تُذِلّني بعقابك إياي يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ يقول : لا تخزني يوم لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا مالٌ كان له في الدنيا ، ولا بنوه الذين كانوا له فيها ، فيدفع ذلك عنه عقاب الله إذا عاقبه ، ولا ينجيه منه . وقوله : إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْب سَلِيمٍ يقول : ولا تخزني يوم يبعثون ، يوم لا ينفع إلا القلب السليم .
والذي عني به من سلامة القلب في هذا الموضع : هو سلام القلب من الشكّ في توحيد الله ، والبعث بعد الممات . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن عون ، قال : قلت لمحمد : ما القلب السليم ؟ قال : أن يعلم أن الله حقّ ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : لا شكّ فيه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، قوله إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْب سَلِيمٍ قال : ليس فيه شكّ في الحقّ .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : سليم من الشرك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : سليم من الشرك ، فأما الذنوب فليس يسلم منها أحد .
حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَمُلي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن جُوَبير ، عن الضحاك ، في قول الله إلاّ مَنْ أَتى اللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ قال : هو الخالص .
{ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم } أي لا ينفعان أحدا إلا مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته ، أو لا ينفعان إلا مال من هذا شأنه وبنوه حيث أنفق ماله في سبيل البر ، وأرشد بنيه إلى الحق وحثهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عباد الله مطيعين شفعاء له يوم القيامة . وقيل الاستثناء مما دل عليه المال والبنون أي لا ينفع غنى إلا غناه . وقيل منقطع والمعنى لكن سلامة { من أتى الله بقلب سليم } تنفعه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت إبراهيم، عليه السلام، ذلك اليوم، فقال: {يوم لا ينفع مال ولا بنون} من العذاب من بعد الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ" يقول: لا تخزني يوم لا ينفع من كفر بك وعصاك في الدنيا مالٌ كان له في الدنيا، ولا بنوه الذين كانوا له فيها، فيدفع ذلك عنه عقاب الله إذا عاقبه، ولا ينجيه منه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... المعنى: يوم لا ينفع إعلاق بالدنيا ومحاسنها فقصد من ذلك العظم والأكثر؛ لأن المال والبنين هي زينة الحياة الدنيا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما نبه على أن المقصود هو الآخرة، صرح بالتزهيد في الدنيا بتحقير أجل ما فيها فقال: {يوم لا ينفع} أي أحداً {مال} أي يفتدي به أو يبذله لشافع أو ناصر مقاهر {ولا بنون} ينتصر بهم أو يعتضد فكيف بغيرهم.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
بدلٌ من "يومَ يبعثُون "جِيء به تأكيداً للتَّهويلِ وتمهيداً لما يعقبُه من الاستثناءِ من أعمِّ المفاعيلِ. أي لا ينفعُ مالٌ وإن كان مصرُوفاً في الدُّنيا إلى وجوهِ البرِّ والخيراتِ، ولا بنون، وإن كانُوا صُلحاءَ مستأهلينَ للشَّفاعةِ أحداً.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
كما نستشف من قوله: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم. وإدراكه كذلك لحقيقة القيم. فليست هنالك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص. إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض. وصفائه من الشهوات والانحرافات. وخلوه من التعلق بغير الله. فهذه سلامته التي تجعل له قيمة ووزنا (يوم لا ينفع مال ولا بنون)؛ ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة، التي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض؛ وهي لا تزن شيئا في الميزان الأخير!.