ثم بين - سبحانه - أنهم لم يكتفوا بإنكارهم للبعث ، بل أضافوا إلى ذلك سوء الأدب ، والسخرية ممن يؤمن به فقال : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ . . } .
أى : لقد وعدنا على لسان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم بأن البعث حق ، كما وعد آباؤنا قبل ذلك على ألسنة الرسل السابقين ، ونحن لا نصدق هذا الرسول ، ولا أولئك الرسل .
{ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } أى : ما هذا البعث الذى وعدنا جميعاً به ، إلا أساطير الأولين . أى : أكاذيبهم التى سطروها من عند أنفسهم فى كتبهم .
والأساطير : جمع أسطورة ، كأحدوثة ، وأعجوبة ، وأكذوبة .
وهكذا الجهلاء المغرورون ، لا يقفون من الحق موقف المنكر له فحسب ، بل يضيفون إلى ذلك سوء الأدب ، وقبح المنطق ، والقول بغير علم .
وقد أمر الله - تعالى - رسوله أن يرد على أباطيلهم ، وأن يلزمهم بثلاث حجج ، تدل على أن الله - تعالى - قادر على إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم .
ولم يكف هؤلاء أن تقصر مداركهم عن إدراك حكمة الله ، وقدرته على البعث ، فإذا هم يسخرون مما يوعدون من البعث والجزاء . أن كان هذا الوعد قد قيل لهم ولآبائهم من قبل ، ولم يقع بعد !
( لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل . إن هذا إلا أساطير الأولين ) . .
والبعث متروك لموعده الذي ضربه الله له ، وفق تدبيره وحكمته ، لا يستقدم ولا يستأخر ، تلبية لطلب جيل من أجيال الناس ، أو استهزاء جماعة من الغافلين المحجوبين !
القول في تأويل قوله تعالى : { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هََذَا مِن قَبْلُ إِنْ هََذَآ إِلاّ أَسَاطِيرُ الأوّلِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قالوا : لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا يا محمد ، ووعد آباءنا من قبلنا قوم ذكروا أنهم لله رسل من قبلك ، فلم نره حقيقة أن هذا يقول : ما هذا الذي تعدنا من البعث بعد الممات إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ يقول : ما سطّره الأوّلون في كتبهم من الأحاديث والأخبار التي لا صحة لها ولا حقيقة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالوا: لقد وعدنا هذا الوعد الذي تعدنا يا محمد، ووعد آباءنا من قبلنا قوم ذكروا أنهم لله رسل من قبلك، فلم نره حقيقة "إن هذا "يقول: ما هذا الذي تعدنا من البعث بعد الممات "إلاّ أساطِيرُ الأوّلِينَ" يقول: ما سطّره الأوّلون في كتبهم من الأحاديث والأخبار التي لا صحة لها ولا حقيقة.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يقولون: قد وعد آباؤنا بمثل ما وعدنا نحن، فلم ينزل بهم ما أوعدوا من العذاب، ولا ينزل أيضا بنا ما تعدنا، وهو أساطير الأولين، أي أحاديث الأولين.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{لَقَدْ وُعِدْنَا} لمَّا طال عليهم وقتُ الحشر، وما توعدهم به من العذاب بعد البعث والنَّشْر زَادَ ذلك في ارتيابهم، وجعلوا ذلك حُجَّةً في لَبْسِهم واضطرابهم، فقالوا: لقد وُعِدْنا مثل هذا نحن وآباؤنا، ثم لم يكن لذلك تحقيق؛ فما نحن إلاَّ أمثالُهم. فاحتجَّ اللَّهُ عليهم في جواز الحشر بما أقروا به من ابتداء الخَلْق: {قُل لِّمَنِ الأَرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أمَرَه -عليه السلام- أَنْ يُلَوِّنَ عليهم الأسئلة، وعَقَّبَ كُلُّ واحدٍ من ذلك -مُخْبِراً عنهم- أنهم سيقولون: لله، ثم لم يَكْتَفِ منهم بقالتهم تلك، بل عاتَبَهم على تجرُّدِ قولهم عن التَّذَكُّر والفَهْمِ والعلم، تنبيهاً على أن القول -وإن كان في نفسه صدقاً- فلم تكن فيه غنية؛ إذ لم يصدر عن علمٍ ويقينٍ. ثم نَبَّهَهُمْ على كمالِ قدرته، وأنَّ القدرة القديمة إذا تعلَّقت بمقدورٍ له ضدٌّ تعلَّقَت بضدِّه، ويتعلق بمثل متعلقه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وآباؤنا} أي حكى المقالة عن العرب فمرادهم من سلف من العالم جعلوهم آباء من حيث النوع واحد وإن حكى ذلك عن الأولين فالأمر مستقيم فيهم...
كأنهم قالوا إن هذا الوعد كما وقع منه عليه الصلاة والسلام فقد وقع قديما من الأنبياء، ثم لم يوجد مع طول العهد، فظنوا أن الإعادة تكون في دار الدنيا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان محط العناية في هذه السورة الخلق والإيجاد، والتهديد لأهل العناد، حكى عنهم أنهم قالوا: {لقد وعدنا} مقدماً قولهم: {نحن وآباؤنا} على قولهم: {هذا} أي البعث {من قبل} بخلاف النمل، فإن محط العناية فيها الإيمان بالآخرة فلذلك قدم قوله "هذا"، والمراد وعد آبائهم على ألسنة من أتاهم من الرسل غير أن الإخبار بشموله جعله وعداً للكل على حد سواء، ثم استأنفوا قولهم: {إن} أي ما {هذا إلا أساطير الأولين} أي كذب لا حقيقة له، لأن ذلك معنى الإنكار المؤكد.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والبعث متروك لموعده الذي ضربه الله له، وفق تدبيره وحكمته، لا يستقدم ولا يستأخر، تلبية لطلب جيل من أجيال الناس، أو استهزاء جماعة من الغافلين المحجوبين!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {لقد وعدنا...} تعليل للإنكار وتقوية له. وقد جعلوا مستند تكذيبهم بالبعث أنه تكرر الوعد به في أزمان متعددة فلم يقع ولم يبعث واحد من آبائهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ ذلك لا يصدق! (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) فكانت وعوداً كاذبة، و (إنّ هذا إلاّ أساطير الأوّلين) فإعادة الخلق اُسطورة، والحساب والكتاب أساطير أُخرى، وكذا الجنّة والنّار. ولكون الكفّار والمشركين أشدّ خوفاً من اليوم الآخر وما فيه من هول الحساب وعدل الكتاب، تذرّعوا بالأوهام لتسويغ إعراضهم عن الحقّ وتمسّكهم بالباطل. ولهذا سدّدت الآيات موضع البحث ضربةً قويّة إلى هذا المنطق الواهي من ثلاث طرق: بتذكيرها الإنسان بمالكية الله لعالم الوجود المترامي الأطراف، وربوبيته له، وسيادته عليه. وتستنتج من جميع الأبحاث قدرة الله وسهولة المعاد عليه سبحانه، وأنّ عدالته وحكمته تستلزمان أن يعقب هذا العالم عالم آخر وحياة أُخرى. وممّا يلفت النظر أنّ القرآن يأخذ من المشركين اعترافا بكلّ مسألة، فيعيد كلامهم ليثبت إقرارهم.