قوله تعالى : { الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم*ولئن سألتهم من نزل من السماء ماءً فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ، قل الحمد لله } على أن الفاعل لهذه الأشياء هو الله ، { بل أكثرهم لا يعقلون } وقيل : قل الحمد لله على إقرارهم ولزوم الحجة عليهم ، { بل أكثرهم لا يعقلون } ينكرون التوحيد مع إقرارهم أنه الخالق لهذه الأشياء .
ثم أكد - سبحانه - للمرة الثانية اعتراف هؤلاء المشركين بقدرة الله - تعالى - فقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً } أى : ماء كثيراً { فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا } أى : فجعل الأرض بسبب نزول الماء عليها تصبح خضراء بالنبات بعد أن كانت جدباء قاحلة .
لئن سألتهم من فعل ذلك { لَيَقُولُنَّ الله } هو الذى فعل ذلك .
{ قُلِ الحمد لِلَّهِ } أى : قل - أيها الرسول الكريم - على سبيل الثناء على الله - تعالى - : الحمد لله الذى أظهر حجته ، وجعلهم ينطقون بأنك على الحق المبين ، ويعترفون بأن إشراكهم إنما هو من باب العناد والجحود .
وقوله - سبحانه - : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } إضراب عما هم عليه من انحراف وتناقض ، إلى بيان حقيقة حالهم ، وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم عما يعتريه بسببهم من حزن .
أى : بل أكثرهم لا يعقلون شيئاً مما يجب أن يكون عليه العقلاء من فهم سليم للأمور ، ومن العمل بمقتضى ما تنطق به الألسنة .
وفى التعبير بأكثرهم ، إنصاف لقلة منهم عقلت الحق فاتبعته ، وآمنت به وصدقته ،
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مّن نّزّلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنّ اللّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله من قومك من نزل من السماء ماء ، وهو المطر الذي ينزله الله من السحاب فأحْيا بِه الأرْضِ يقول : فأحيا بالماء الذي نزل من السماء الأرض ، وإحياؤها : إنباتُه النباتَ فيها منْ بعدِ مَوْتها من بعد جدوبها وقحوطها .
وقوله : لَيَقُولُنّ اللّهُ يقول : ليقولنّ الذي فعل ذلك الله الذي له عبادة كل شيء . وقوله : قُلِ الحَمْدُ لِلّهِ يقول : وإذا قالوا ذلك ، فقل الحمد لله بَلْ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ يقول : بل أكثر هؤلاء المشركين بالله لا يعقلون مالهم فيه النفع من أمر دينهم ، وما فيه الضرّ ، فهم لجهلهم يحسِبون أنهم لعبادتهم الاَلهة دون الله ، ينالون بها عند الله زُلْفة وقربة ، ولا يعلمون أنهم بذلك هالكون مستوجبون الخلود في النار .
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فأَحيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ }
أعيد أسلوب السؤال والجواب ليتصل ربط الأدلة بعضها ببعض على قرب . فقد كان المشركون لا يدَّعُون أن الأصنام تُنزل المطر كما صرحت به الآية فقامت الحجة عليهم ولم ينكروها وهي تقرع أسماعهم .
وأدمج ف الاستدلال عليهم بانفراده تعالى بإِنزال المطر أن الله أحيا به الأرض بعد موتها وإن كان أكثر المشركين ينسبون المسببات غلى أسبابها العادية كما تبين في بحث الحقيقة والمجاز العقليين في قولهم : أنبت الربيع البقل ، أنه حقيقة عقلية في كلام أهل الشرك لأنهم مع ذلك لا ينسبون الإنبات إلى اصنامهم ، وقد اعترفوا بأن سبب الإنبات وهو المطر منزل من عند الله فيلزمهم أن الإنبات من الله على كل تقدير . وفي هذا الإدماج استدلال تقريبي لإِثبات البعث كما قال : { فانظر إلى أثر رحمة الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } [ الروم : 50 ] وقال : { ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون } [ الروم : 19 ] .
ولما كان سياق الكلام هنا في مساق التقرير كان المقام مقتضياً للتأكيد بزيادة { من } في قوله { من بعد موتها } إلجاء لهم إلى الإقرار بأن فاعل ذلك هو الله دون أصنامهم فلذلك لم يكن مقتضى لزيادة ( مِن ) في آية البقرة ، وفي الجاثية [ 5 ] { فأحيا به الأرض بعد موتها } .
وقد أشار قوله { من بعد موتها } إلى موت الأرض ، أي موت نباتها يكون بإمساك المطر عنها في فصول الجفاف أو في سنين الجدب لأنه قابله بكون إنزال المطر لإرادته إحياء الأرض بقوله { فأحيا به الأرض } ، فلا جرم أن يكون موتها بتقدير الله للعلم بأن موت الأرض كان بعد حياة سبقت من نوع هذه الحياة ، فصارت الآية دالة على أنه المتصرف بإحياء الأرض وإماتتها ، ويعلم منه أن محيي الحيوان ومميته بطريقة لحن الخطاب .
فانتظم من هذه الآيات المفتتحة بقوله { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض } [ العنكبوت : 61 ] إلى هنا أصول صفات أفعال الله تعالى وهي : الخلق ، والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، من أجل ذلك عقيب بأمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده بكلام يدل على تخصيصه بالحمد .
{ قُلِ الْحَمْدُ لِلهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَعْقِلُونَ }
لما اتضحت الحجة على المشركين بأن الله منفرد بالخلق والرزق والإحياء والإماتة ، ولزم من ذلك أن ليس لأصنامهم شرك في هذه الأفعال التي هي اصول نظام ما على الأرض من الموجودات فكان ذلك موجباً لإِبطال شركهم بما لا يستطيعون إِنكاره ولا تأويله بعد أن قرعت أسماعهم دلائله وهم واجمون لا يبدون تكذيباً فلزم من ذلك صدقُ الرسول عليه الصلاة والسلام فيما دعاهم إليه . وكَذِبثهم فيما تطاولوا به عليه في أمر الله ورسوله بأن يحمده على أن نصرهُ بالحجة نصراً يؤذن بأنه سينصره بالقوة .
وتلك نعمة عظيمة تستحق أن يحمد الله عليها إذ هو الذي لقنها رسوله صلى الله عليه وسلم بكتابه وما كان يدري ما الكتاب ولا الإِيمان .
فهذا الحمد المأمور به متعلِّقه محذوف تقديره : الحمد لله على ذلك . وهو الحجج المتقدمة ، وليس خاصاً بحجة إنزال الماء من السماء ، وكذلك شأن القيود الواردة بعد جعل متعددة أن ترجع غلى جميعها ، وكذلك ترجع معها متعلِّقاتها -بكسر اللام- وقرينة المقام كنار على علَم ، ألا ترى أن كل حجة من تلك الحجج تستأهل أن يحمد الله على إقامتها فلا تختص بالحمد حجة إنزال المطر فقد قال تعالى في سورة لقمان [ 25 ] { ولَئِن سألتَهُم مَن خَلَقَ السَّماوات والأرضَ ليقولُنَّ الله قُلْ الحمدُ لله بَلْ أكثَرهُم لا يَعْلَمون } فلذلك لا يجعل قوله { قل الحمد لله } اعتراضاً .
و { بل أكثرهم لا يعقلون } إضراب انتقال من حمد الله على وضوح الحجج إلى ذم المشركين بأن أكثرهم لا يتفطنون لنهوض تلك الحجج الواضحة فكأنهم لا عقل لهم لأن وضوح الحجج يقتضي أن يفطن لنتائجها كلُّ ذي مُسكة من عقل فنزلوا منزلة من لا عقول لهم . وإنما أسند عدم العقل إلى أكثرهم دون جميعهم لأن من عقلائهم وأهل الفطن منهم من وضحت له تلك الحجج فمنهم من آمنوا ، ومنهم من أصرّوا على الكفر عناداً .