المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (105)

104- وعلم الله صِدْق إبراهيم وابنه في الاختبار ، وناداه الله - نداء الخليل - : يا إبراهيم ، قد استجبت مطمئنا لوحي الرؤيا ، ولم تتردد في الامتثال ، فحسبك هذا ، إنا نخفف عنك اختبارنا جزاء إحسانك ، كما نجزى المحسنين على إحسانهم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (105)

69

وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما . فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا :

( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . إنا كذلك نجزي المحسنين . إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم ) . .

قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً . فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، ولو كان هو الابن فلذة الكبد . ولو كانت هي النفس والحياة . وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء . وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين . فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبح من دم ولحم ! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت . يفديها بذبح عظيم . قيل : إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل !

وقيل له : ( إنا كذلك نجزي المحسنين ) . . نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء . ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !

ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان . وجمال الطاعة . وعظمة التسليم . والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم ، الذي تتبع ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ? ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه . ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا ، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم !

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (105)

وقوله ، { قد صدقت } يحتمل أن يريد بقلبك على معنى كانت عندك رؤياك صادقة وحقاً من الله فعملت بحسبها حين آمنت بها واعتقدت صدقها ، ويحتمل أن يريد صدقت بعملك ما حصل عن الرؤيا في نفسك كأنه قال قد وفيتها حقها من العمل ، و { الرؤيا } اسم لما يرى من قبل الله تعالى ، والمنام والحلم اسم لما يرى من قبل الشيطان ، ومنه الحديث الصحيح «الرؤيا من الله والحلم من الشيطان »{[9883]} .

وقوله { إنا كذلك } إشارة إلى ما عمل إبراهيم ، كأنه يقول إنا بهذا النوع من الإخلاص والطاعة { نجزي المحسنين } .


[9883]:أخرجه البخاري في التعبير وبدء الخلق والطب، ومسلم في الرؤيا، وأبو داود في الأدب، والترمذي في الرؤيا، وابن ماجه، والدارمي، ومالك في الموطأ، كلهم في الرؤيا، والإمام أحمد في المسند(5-296، 300، 305، 310). عن أبي قتادة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَدۡ صَدَّقۡتَ ٱلرُّءۡيَآۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجۡزِي ٱلۡمُحۡسِنِينَ} (105)

وتصديق الرؤيا : تحقيقها في الخارج بأن يعمل صورة العمل الذي رآه يقال : رؤيا صادقة ، إذا حصل بَعدها في الواقع ما يماثل صورةَ ما رآه الرائي قال الله تعالى : { لقد صدق اللَّه رسوله الرؤيا بالحق } [ الفتح : 27 ] . وفي حديث عائشة : « أول ما بُدِىءَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة ، فكان لا يرى رؤياً إلا جاءت مثل فَلَق الصبح » . وبضد ذلك يقال : كذبتْ الرؤيا ، إذا حصل خلاف ما رأى . وفي الحديث : " إذا اقترب الزمان لم تكد تَكذب رؤيا المؤمن " ، فمعنى { قد صدَّقْتَ الرؤيا } قد فعلتَ مثل صورة ما رأيت في النوم أنك تفعله . وهذا ثناء من الله تعالى على إبراهيم بمبادرته لامتثال الأمر ولم يتأخر ولا سأل من الله نسخ ذلك .

والمراد : أنه صدق ما رآه إلى حدِّ إمرار السكين على رقبة ابنه ، فلما ناداه جبريل بأن لا يذبحه كان ذلك الخطابُ نسخاً لما في الرؤيا من إيقاع الذبح ، وذلك جاء من قِبل الله لا من تقصير إبراهيم ، فإبراهيم صدَّق الرؤيا إلى أن نهاه الله عن إكمال مِثالها ، فأُطلق على تصديقه أكثرَها أنه صدَّقها ، وجُعِل ذبح الكبش تأويلاً لذبح الولد الواقع في الرؤيا .

وجملة { إنَّا كذلك نَجزي المحسنين } تعليل لجملة { وناديناهُ } لأن نداء الله إياه ترفيع لشأنه فكان ذلك النداء جزاء على إحسانه . وهذه الجملة يجوز أن تكون من خطاب الله تعالى إبراهيمَ ، ويجوز أن تكون معترضة بين جُمل خطاب إبراهيم ، والإِشارة في قوله : { كذلك } إلى المصدر المأخوذ من فعل { صَدَّقتَ } من المصدر وهو التصديق مثل عَود الضمير على المصدر المأخوذ من { اعدلوا هو أقرب للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، أي إنا نجزي المحسنين كذلك التصديق ، أي مثل عظمة ذلك التصديق نجزي جزاءً عظيماً للمحسنين ، أي الكاملين في الإِحسان ، أي وأنت منهم .

ولِما يتضمنه لفظ الجزاء من معنى المكافأة ومماثلة المجزي عليه عُظم شأن الجزاء بتشبيهه بمشبه مشار إليه بإشارة البعيد المفيد بُعداً اعتبارياً وهو الرفعة وعُظم القدر في الشرف ، فالتقدير : إنا نجزي المحسنين جزاء كذلك الإِحسان الذي أحسنتَ به بتصديقك الرؤيا ، مكافأة على مقدار الإِحسان فإنه بذل أعَزّ الأشياء عليه في طاعة ربّه فبذل الله إليه من أحسن الخيرات التي بيده تعالى ، فالمشبه والمشبه به معقولان إذ ليس واحد منهما بمشاهد ولكنهما متخيَّلان بما يتسع له التخيّل المعهود عند المحسنين مما يقتضيه اعتقادهم في وعْد الصادق من جزاءِ القادر العظيم ، قال تعالى : { هل جزاء الإحسان إلا الإحسان } [ الرحمن : 60 ] .

ولِمَا أفاد اسم الإِشارة من عظمة الجزاء أُكّد الخبر ب { إنَّ } لدفع توهم المبالغة ، أي هو فوق ما تعْهده في العظمة وما تُقدره العقول .

وفهم من ذكر المحسنين أن الجزاء إحسان بمثل الإِحسان فصار المعنى : إنا كذلك الإِحسان العظيم الذي أحسنته نجزي المحسنين ، فهذا وعد بمراتب عظيمة من الفضل الرباني ، وتضمن وعد ابنه بإحسان مثله من جهة نوط الجزاء بالإِحسان ، وقد كان إحسان الابن عظيماً ببذل نفسه .