ولقد كان شيوخ قريش يلقبون بذوي الحلوم . أو ذوي الأحلام . إشارة إلى رجاحة عقولهم وحكمتهم في تصريف الأمور . فهو يتهكم بهم وبأحلامهم تجاه الإسلام . وموقفهم منه ينافي الحكمة والعقل ، فيسأل في تهكم : أهذه الأوصاف التي يصفون بها محمدا [ صلى الله عليه وسلم ] وتلك المواقف التي يقفونها من رسالته كانت من وحي أحلامهم ? أم أنهم طغاة ظالمون لا يقفون عند ما تمليه الأحلام والعقول :
( أم تأمرهم أحلامهم بهذا ? أم هم قوم طاغون ) !
وفي السؤال الأول تهكم لاذع . وفي السؤال الثاني اتهام مزر . وواحد منهما لا بد لاحق بهم في موقفهم المريب !
طاغون : مجاوزون الحدّ في المكابرة والعناد .
32- { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } .
هل عقولهم الراجحة تأمرهم بالوقوع في هذا الاضطراب ، فيقولون : هو شاعر أو كاهن ، ثم يقولون : هو مجنون ، ومعنى شاعر : له عبقرية متميزة ، تقرض الشعر المتميز ، ومعنى كاهن : له ذكاء خارق يستطيع التنبؤ بالحكم الخفي في الأحداث السابقة ، أما المجنون فهو من ذهب عقله واختفى ، فكيف يوصف محمد بغاية الذكاء مرة ، وبغيبة العقل مرة أخرى ؟ !
{ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } .
بل إن السبب الحقيقي هو الطغيان ، ومجاوزة الحدّ في الخروج عن الجادة والعناد ، وبذلك انصرفوا عن الاستماع للقرآن ، إذ ما فائدة العقول الراجحة ، التي كان لها فضل على العرب في إنشاء أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز ، لعرض الرائع من القول ، والمتميز من الشعر ، والفائق من الخُطب ، ثم يأتي القرآن عربيا مبينا ، بلُغتهم وعلى طريق حوارهم ، فيمنعهم الطغيان والعناد من النظرة المنصفة للقرآن الكريم .
قيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله عز وجل ، أي لم يصحبها التوفيق ، فلذلك لم يؤمنوا وكفروا ، وإذا تأملنا في الموضوع وجدنا أن قريشا كانت لها الصدارة في الجزيرة العربية ، وتتمتع بمنزلة سامية في المجتمع المجاور لها ، وقد خالطت أهل الشام في رحلة الصيف ، وأهل اليمن في رحلة الشتاء ، وكان الأولى بها أن تعتبر بما شاهدته .
وعقول أهل مكة كانت أسمى من أن تعتقد الألوهية للأصنام والتماثيل ، وخصوصا بعد نزول القرآن ، وتوضيح الرسول الأمين ، لكنها المصالح الدنيوية ، والأثرة والحرص على الغنى والجاه ، والحرص على ممارسة الربا والزنا وشرب الخمر ، وعدم إقامة الصلاة وعدم إيتاء الزكاة ، كل هذا هو الذي حملهم على اتخاذ موقف الطغيان والعناد من الإسلام ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى : { أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
وقال عز شأنه : { لإيلافِ قُرَيْشٍ * إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } . ( قريش : 1-4 ) .
وقال سبحانه وتعالى : { فإنهم لا يكذبوك ولكنّ الظالمين بآيات الله يجحدون } . ( الأنعام : 33 ) .
وقال سبحانه وتعالى : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين } . ( النمل : 14 )
قومٌ طاغون : ظالمون تجاوزوا حد المكابرة والعناد .
ثم سفّه أحلامَهم بقوله تعالى : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ؟ }
هل تأمرهم عقولهم بهذا القول المتناقِض ، فالكاهنُ والشاعر من أهلِ الفطنة والعقل والذكاء ، والمجنونُ لا عقل له ، فكيف بكون شاعراً أو مجنوناً ! ؟ ، بل الحقّ أنهم قومٌ طاغون ، يفتَرون الأقاويل دون دليل عليها .
{ أم تأمرهم أحلامهم بهذا } : أي أتأمرهم أحلامهم أي عقولهم بهذا وهو قولهم إنك كاهن ومجنون لم تأمرهم عقولهم به .
{ أم هم قوم طاغون } : أي بل هم قوم طاغون متجاوزون لكل حد تقف عنده العقول .
وقوله تعالى : { أم تأمرهم أحلامهم بهذا } والاستفهام للنفي والتوبيخ والجواب لم تأمرهم عقولهم بهذا بل هم قوم طاغون أي إن طغيانهم هو الذي يأمرهم بما يقولون ويفعلون من الباطل والشر والفساد . الهداية
{ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي : أهذا التكذيب لك ، والأقوال التي قالوها ؟ هل صدرت عن عقولهم وأحلامهم ؟ فبئس العقول والأحلام ، التي أثرت ما أثرت ، وصدر منها ما صدر{[882]} .
فإن عقولا جعلت أكمل الخلق عقلا مجنونا ، وأصدق الصدق{[883]} وأحق الحق كذبا وباطلا ، لهي العقول التي ينزه المجانين عنها ، أم الذي حملهم على ذلك ظلمهم وطغيانهم ؟ وهو الواقع ، فالطغيان ليس له حد{[884]} يقف عليه ، فلا يستغرب من الطاغي المتجاوز الحد كل قول وفعل صدر منه .