ومن هذه السبحة البعيدة الآفاق يعود إلى الأرض ، وما فيها من ماء ، جعله الله بقدر . قدر في نوعه ، وقدر في تصريفه ، وقدر في الانتفاع به :
مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? . .
والبحران المشار إليهما هما البحر المالح والبحر العذب ، ويشمل الأول البحار والمحيطات ، ويشمل الثاني الأنهار . ومرج البحرين أرسلهما وتركهما يلتقيان ، ولكنهما لا يبغيان ، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر ، ووظيفته المقسومة ،
{ مرج البحرين يلتقيان . . . } أرسل الله المياه العذبة والملحة في مجاريها أنهارا وبحارا على سطح الأرض ، متجاورة متصلة الأطراف ، ومع ذلك لم تختلط ؛ لاقتضاء حكمته تعالى إقامة حواجز بينهما من أجرام الأرض تمنعها من الاختلاط ، ولولاها لبغى أحد النوعين على الآخر ؛ فبقي العذب على عذبته ، والملح على ملوحته ؛ لينتفع بكل منهما فيما خلق لأجله .
ومن بدائع الصنعة ودلائل القدرة : إبقاء الأنهار والبحار الهائلة المحيطة في مجاريها على سطح الأرض على ما نشاهده مع كرويتها ، وإمساكها عن الطغيان على اليابس وهو دونها بكثير ؛ وإلا لغرق الناس ،
وفني العالم ، والله على كل شيء قدير ؟ و " مرج " أرسل ؛ من مرج الدابة – من باب نصر - : أرسلها ترعى من المرج . " يلتقيان " يتجاوران . أو تلتقي أطرافهما . " برزخ " حاجز من أجرام الأرض ؛ وذلك بقدرته تعالى . " لا يبغيان " لا يطغى أحدهما على الآخر بالممازجة . أولا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما .
قوله تعالى : " مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان " " مرج " أي خلى وأرسل وأهمل ، يقال : مرج السلطان الناس إذا أهملهم . وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدابة في المرعى . ويقال : مرج خلط . وقال الأخفش : ويقول قوم : أَمْرَج البحرين مثل مرج ، فعل وأفعل بمعنى . " البحرين " قال ابن عباس : بحر السماء وبحر الأرض ، وقال مجاهد وسعيد بن جبير . " يلتقيان " في كل عام . وقيل : يلتقي طرفاهما . وقال الحسن وقتادة : بحر فارس والروم . وقال ابن جريج : إنه البحر المالح والأنهار العذبة . وقيل : بحر المشرق والمغرب يلتقي طرفاهما . وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان .
{ مرج البحرين يلتقيان } ذكر في الفرقان . أي : يلتقي ماء هذا وماء هذا وذلك إذا نزل المطر في البحر على القول بأن البحر العذب هو المطر ، وأما على القول بأن البحر العذب هو الأنهار والعيون ، فالتقاؤهما بانصباب الأنهار في البحر ، وأما على قول من قال : إن البحرين بحر فارس وبحر الروم ، أو بحر القلزم واليمن فضعيف لقوله في الفرقان : { هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج } [ الفرقان : 53 ] ، وكل واحد من هذه أجاج ، والمراد بالبحرين في هذه السورة ما أراد في الفرقان .
ولما كانت باحة البحر لجري المراكب كساحة السماء لسير الكواكب مع ما{[61866]} اقتضى ذكره من تضمن ذكر المشارق والمغارب للشتاء الحاصل فيه من الأمطار ما لو جرى على القياس لأفاض البحار ، فأغرقت البراري والقفار ، وعلت{[61867]} على الأمصار وجميع الأقطار ، فقال : { مرج } أي أرسل الرحمن { البحرين } أي الملح والعذب فجعلهما مضطربين ، من طبعهما الاضطراب ، حال كونهما { يلتقيان * } أي يتماسان{[61868]} على ظهر الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين وفي باطنها ، فجعل الحلو آية دالة على مياه الجنة ، والملح آية دالة على بعض شراب أهل النار لا يروي شاربه ولا يغنيه ، بل يحرق بطنه ويعييه ، أو بحري فارس والروم هما ملتقيان في البحر المحيط لكونهما خليجين منه .