ثم يمضي السياق في بيان مصير هذه الروح الذي يتراءى لها من بعيد حين تبلغ الحلقوم ، وتستدبر الحياة الفانية ، وتستقبل الحياة الباقية . وتمضي إلى الدينونة التي يكذب بها المكذبون :
( فأما إن كان من المقربين ، فروح وريحان وجنة نعيم . وأما إن كان من أصحاب اليمين ، فسلام لك من أصحاب اليمين . وأما إن كان من المكذبين الضالين . فنزل من حميم . وتصلية جحيم ) .
88 ، 89- { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ } .
في آيات سابقة أظهر القرآن عجز الإنسان أمام ظاهرة الموت .
قال الخازن في تفسيره : وإذا لم يمكنكم إرجاع روح الميت إلى جسده ، فاعلموا أن الأمر إلى غيركم ، وهو الله تعالى فآمنوا به .
وهنا يذكر الله تعالى حال الناس بعد الوفاة ، ويقسّمهم إلا ثلاثة أقسام ، قد ذُكروا تفصيلا في صدر السورة ، وهم : المقربون ، وأصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال .
والمقربون هم السابقون ، المقربون إلى الله تعالى ، قد سبقوا إلى الإيمان وطاعة الله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأداء الواجبات ، وترك المحرمات ، واتباع المأمورات ، والتأدّب بأدب الإسلام ، والتسابق إلى مرضاة الرحمن ، هؤلاء عند الموت يحسّون بمنزلتهم في الجنة ، وتبشرهم الملائكة بالجنة وريحانها وثمارها ونعيمها .
قال تعالى : { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . . . } ( إبراهيم : 27 ) .
وعن مجاهد : فروح وريحان : جنة ورخاء .
وقال غيرهم : فروح . راحة من الدنيا ، وريحان . فرح بنعيم الآخرة .
وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة ، كما يقول ابن كثير في تفسيره ، فإن من مات مقربا حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة ، والفرح والسرور ، والرزق الحسن . أ . ه .
وجنّت نعيم . والجنة الواسعة التي يتنعم فيها المقربون بألوان النعيم .
وقد أورد الحافظ ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية الشريفة عند تفسير هذه الآية .
منها ما رواه البخاري ، ومسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر ، تسرح في رياض الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش " xxi .
وتفيد جملة من الأحاديث أن روح المؤمن تسبح في الجنة ، حتى يُرجع الله الروح إلى الجسد عند البعث .
{ 88-96 } { فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ }
ذكر الله تعالى أحوال الطوائف الثلاث : المقربين ، وأصحاب اليمين ، والمكذبين الضالين ، في أول السورة في دار القرار .
ثم ذكر أحوالهم في آخرها عند الاحتضار والموت ، فقال : { فَأَمَّا إِنْ كَانَ } الميت { مِنَ الْمُقَرَّبِينَ } وهم الذين أدوا الواجبات والمستحبات ، وتركوا المحرمات والمكروهات{[975]} وفضول المباحات .
قوله تعالى : { فأما إن كان من المقربين 88 فروح وريحان وجنّت نعيم 89 وأما إن كان من أصحاب اليمين 90 فسلام لك من أصحاب اليمين 91 وأما إن كان من المكذّبين الضالين 92 فنزل من حميم 93 وتصلية جحيم 94 إن هذا لهو حق اليقين 95 فسبح بسم ربك العظيم } .
يبين الله في هذه الآيات أحوال الناس عند احتضارهم ، وهي أحوال ثلاثة : حال كل من المقربين ، وأصحاب اليمين ، والمكذبين الضالين . وفي ذلك يقول الله سبحانه : { فأما إن كان من المقربين } يعني إن كان المتوفى من المقربين وهم السابقون من الأزواج الثلاثة الذين ذكروا في أول السورة .