ثم قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } وهذا يشمل كل ما يؤثم من صغير وكبير ، فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية على نفسه ، لا تتعداها إلى غيرها ، كما قال تعالى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها ، فلا تخرج أيضا عن حكم هذه الآية الكريمة ، لأن من ترك الإنكار الواجب فقد كسب سيئة .
وفي هذا بيان عدل الله وحكمته ، أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد ، ولا يعاقب أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه ، ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : له العلم الكامل والحكمة التامة .
ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه ، والسبب الداعي لفعله ، والعقوبة المترتبة على فعله ، ويعلم حالة المذنب ، أنه إن صدر منه الذنب بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته ، أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة .
وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه ، وتهاونا بعقابه ، فإن هذا بعيد من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة .
والآية الثانية تقرر فردية التبعة . وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء ، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة . الخوف من عمله وكسبه . والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره .
( ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه . وكان الله عليما حكيمًا . . )
ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام ، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة . كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها . . وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب . مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب . . توازن عجيب ، في هذا التصور الفريد . هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته ، التي تطمئن الفطرة ، وتحقق العدل الإلهي المطلق ؛ المطلوب أن يحاكيه بنو الإنسان .
وقوله : { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ]{[8297]} } كقوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ]{[8298]} } الآية : [ فاطر : 18 ] يعني أنه لا يجني أحد على أحد ، وإنما على كل نفس ما عملت ، لا يحمل عنها غيرها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : من{[8299]} علمه وحكمته ، وعدله ورحمته كان ذلك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ومن يأت ذنبا على عمد منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وبال ذلك الذنب وضرّه وخزيه وعاره على نفسه دون غيره من سائر خلق الله، يقول: فلا تجادلوا أيها الذين تجادلون عن هؤلاء الخونة، فإنكم وإن كنتم لهم عشيرة وقرابة وجيرانا برآء مما أتوه من الذنب ومن التبعة التي يُتْبَعون بها، فإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم كنتم مثلهم، فلا تدافعوا عنهم، ولا تخاصموا.
{وكانَ اللّهُ عَلِيما حَكِيما}: وكان الله عالما بما تفعلون أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها. {حَكِيما}: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم، وتدبير جميع خلقه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه} لأن حاصله يرجع إليه، فكأنه كسب على نفسه...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً} بسارق الدرع {حَكِيماً} حكم القطع على طعمة في السرقة...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
في الآية دلالة على أنه لا يؤخذ أحد بجرم غيره،...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الحَقُّ غنيٌّ عن طاعة المطيعين، وزلة العاصين، فمن أطاع فحظُّه حَصَّلَ، ومن عصى فحظه أخذ.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
ثم ذكر أن ضرر المعصية إنما يلحق العاصي ولا يلحق الله من معصيته ضرر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} أي لا يتعدّاه ضرره إلى غيره، فليبق على نفسه من كسب السوء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
«الإثم»: الحكم اللاحق عن المعصية، ونسبة المرء إلى العقوبة فيها، وقوله: {فإنما يكسبه على نفسه} أي إياها يردي وبها يحل المكروه...
الكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة... كأنه تعالى يقول: الذنب الذي أتيت به ما عادت مضرته إلي فإنني منزه عن النفع والضرر، ولا تيأس من قبول التوبة والاستغفار.
{وكان الله عليما} بما في قلبه عند إقدامه على التوبة {حكيما} تقتضي حكمته ورحمته أن يتجاوز عن التائب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما ندب إلى التوبة ورغب فيها، بين أن ضرر إثمه لا يتعدى نفسه، حثاً على التوبة وتهييجاً إليها لما جبل عليه كل أحد من محبة نفع نفسه ودفع الضر عنها...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه} أي ومن يعمل الإثم عن قصد ويرى أنه قد كسبه وانتفع به فإنما كسبه هذا وبال على نفسه وضرر لا نفع لها كما يتوهم لجهله بعواقب الآثام السيئة في الدنيا والآخرة، ومن العواقب غير المأمونة في الدنيا فضيحة الآثم ومهانته بظهور الأمر للناس وللحاكم العادل كما وقع لأصحاب القصة الذين نزلت بسببهم الآيات وسترى تحديد معنى الإثم في تفسير الآية التي بعد هذه {وكان الله عليما حكيما} قال الأستاذ الإمام أي أنه تعالى قد حدد للناس بعلمه حدود الشرائع التي يضرهم تجاوزها، وبحكمته جعل لها عقابا يضر المتجاوز لها، فهو إذا يضر نفسه ولا يضر الله شيئا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الآية الثانية تقرر فردية التبعة. وهي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي في الجزاء، والتي تثير في كل قلب شعور الخوف وشعور الطمأنينة. الخوف من عمله وكسبه. والطمأنينة من أن لا يحمل تبعة غيره...
ليست هناك خطيئة موروثة في الإسلام، كالتي تتحدث عنها تصورات الكنيسة. كما أنه ليست هناك كفارة غير الكفارة التي تؤديها النفس عن نفسها.. وعندئذ تنطلق كل نفس حذرة مما تكسب. مطمئنة إلى أنها لا تحاسب إلا على ما تكسب.. (ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه. وكان الله عليما حكيمًا..) توازن عجيب، في هذا التصور الفريد. هو إحدى خصائص التصور الإسلامي وأحد مقوماته، التي تطمئن الفطرة، وتحقق العدل الإلهي المطلق.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ويلاحظ في الفرق بين التعبيرين في الآية السابقة وهذه الآية أمران: أولهما: أنه عبر في الأولى عن مرتكب الشر ب"يعمل" وقد بينا ما فهمناه من ذلك، وفي هذه الآية عبر ب"يكسب" للإشارة التي تدنس النفس بالشر، واسوداد القلب به، حتى اربد وأصبح لا نور فيه.
ثانيهما: أنه لم يعبر عن الشر الذي وقع في الأولى بالإثم، بل عبر بالسوء أو الظلم للنفس، وهنا عبر بالإثم المبطئ المبعد عن الله تعالى لأن الشخص في الحال السابقة قريب من الخير بالتوبة القريبة، أما هنا فحاله حال من تبطؤ توبته. وقد قال سبحانه في المرتبة الكبرى من الشر: {ومن يكسب خطيئة أو إثما}...
ويورد الحق كلمة "كسب "عندما يتناول أمرا خيرا فعله الإنسان، ويصف ارتكاب الفعل السيئ ب "اكتسب"، لماذا؟ لأن فعل الخير عملية فطرية في الإنسان لا يستحي منه، لكن الشر دائما هو عملية يستحي منها الإنسان لذلك يحب أن يقوم بها في خفية وتحتاج إلى افتعال من الإنسان...
ولذلك يقال عن الحلال، إنه" كسب "ويقال عن الحرام: إنه" اكتساب". فإذا ما جاء القرآن للسيئة وقال: "كسب سيئة" فهذا أمر يستحق الالتفات، فالإنسان قد يعمل السيئة ويندم عليها بمجرد الانتهاء منها إن كان من أهل الخير، ونجده يوبخ نفسه ويلومها ويعزم على ألا يعود إليها، لكن لو ارتكب واحد سيئة وسعد بذلك وكأنها حققت له كسبا ويفخر بها متناسيا الخطر الجسيم الذي سوف يواجهه يوم القيامة والمصير الأسود، وهو حين يفخر بالمعصية ففي ذلك إعلان عن فساد الفطرة، وسيادة الفجور في أعماقه وهو يختلف عن ذلك الذي تقع عليه المعصية ولحظة ما يتذكرها يقشعر بدنه ويستغفر الله.
" ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه "فإياك أيها الإنسان أن تظن أنك حين تظلم أحدا بعمل سوء قد كسبت الدنيا، فوالله لو علم الظالم ماذا أعد الله للمظلوم لضن على عدوه أن يظلمه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن الإنسان يتحمل مسؤولية عمله، في ما يكسبه من آثام وخطايا بكل ما تفرضه من نتائج سلبية على مستوى حياته في الدنيا، وعلى مستوى مصيره في الآخرة؛ فإذا كانت القضية تنعكس على شخصيته، في ما يتصل بأمور الكرامة والشرف، فإن عشيرته وأولاده وأهل بلده لا يتحملون شيئاً من ذلك، لأن شرف الإنسان يخصه ولا يخص غيره، من خلال ممارسته. وإذا كانت القضية تنعكس على مصيره في ما يتصل بعذاب الله، فلا يعذب إنسان لعمل إنسان آخر، لأن العذاب كان نتيجة كسبه السّيء، فهو الذي يحمل مسؤوليته؛ وعلى هذا الأساس ينبغي للإنسان أن يواجه مواقفه ليعرف كيف يتحمل مسؤوليته أمامها، وليعي جيداً أن الناس لا يغنون عنه شيئاً في قليل أو في كثير، كما أن أخطاء الآخرين لا تلزمه بشيء ولا تخيفه في شيء، وعليه أن يراقب الله في كل أموره، فإنه العليم الحكيم الذي يحيط بكل شيء ويدبّر الأمور بحكمته...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إِنّ الذنوب مهما اختلفت في الظاهر، فإِنّ أضرارها ستلحق أحياناً بالغير وتلحق أحياناً أُخرى بمرتكبها، ولكن بالتحليل النهائي، فإِنّ الذنب تعود نتيجته كلها إِلى الإِنسان المذنب نفسه، وإِن الآثار السيئة للذنب تظهر قبل كل شيء في روح ونفس الشخص المذنب...