ومن هذه السبحة البعيدة الآفاق يعود إلى الأرض ، وما فيها من ماء ، جعله الله بقدر . قدر في نوعه ، وقدر في تصريفه ، وقدر في الانتفاع به :
مرج البحرين يلتقيان . بينهما برزخ لا يبغيان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? وله الجواري المنشآت في البحر كالأعلام . فبأي آلاء ربكما تكذبان ? . .
والبحران المشار إليهما هما البحر المالح والبحر العذب ، ويشمل الأول البحار والمحيطات ، ويشمل الثاني الأنهار . ومرج البحرين أرسلهما وتركهما يلتقيان ، ولكنهما لا يبغيان ، ولا يتجاوز كل منهما حده المقدر ، ووظيفته المقسومة ،
وقوله : { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ } قال ابن عباس : أي أرسلهما .
وقوله : { يلتقيان } قال ابن زيد : أي : منعهما أن يلتقيا ، بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما .
والمراد بقوله : { البحرين } الملح والحلو ، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس . وقد قدمنا الكلام على ذلك في سورة " الفرقان " عند قوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا } [ الفرقان : 53 ] . وقد اختار ابن جرير هاهنا أن المراد بالبحرين : بحر السماء وبحر الأرض ، وهو مروي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعطية وابن أبْزَى .
قال ابن جرير : لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء ، وأصداف {[27858]} بحر الأرض {[27859]} . وهذا وإن كان هكذا ليس المراد [ بذلك ] {[27860]} ما ذهب إليه ، فإنه لا يساعده اللفظ ؛ فإنه تعالى قد قال : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ }
وقوله : مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ يقول تعالى ذكره : مرج ربّ المشرقين وربّ المغربين البحرين يلتقيان ، يعني بقوله : مَرَجَ : أرسل وخلى ، من قولهم : مرج فلان دابته : إذا خلاها وتركها . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : مَرَجَ البَحْرَين يقول : أرسل .
واختلف أهل العلم في البحرين اللذين ذكرهما الله جلّ ثناؤه في هذه الاَية ، أيّ البحرين هما ؟ فقال بعضهم : هما بحران : أحدهما في السماء ، والاَخر في الأرض . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن ابن أبزى مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ قال : بحر في السماء ، وبحر في الأرض .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن أشعث ، عن جعفر عن سعيد ، في قوله : مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ قال : بحر في السماء ، وبحر في الأرض .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ قال : بحر في السماء والأرض يلتقيان كلّ عام .
وقال آخرون : عنى بذلك بحر فارس وبحر الروم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن زياد مولى مصعب ، عن الحسن مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ قال : بحر الروم ، وبحر فارس واليمن .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ فالبحران : بحر فارس ، وبحر الروم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة مَرَجَ البَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ قال : بحر فارس وبحر الروم .
وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : عُنِيَ به بحر السماء ، وبحر الأرض ، وذلك أن الله قال يَخْرُجُ منْهُما اللّؤْلُؤُ وَالمَرْجانُ واللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر الأرض عن قَطْر ماء السماء ، فمعلوم أن ذلك بحر الأرض وبحر السماء .
{ مرج البحرين } معناه : أرسلهما إرسالاً غير منحاز بعضهما من بعض ، ومنه مرجت الدابة ، ومنه الأمر المريج ، أي المختلط الذي لم يتحصل منه شيء ، ومنه من { مارج من نار } [ الرحمن : 15 ] .
واختلف الناس في { البحرين } فقال الحسن وقتادة : بحر فارس وبحر الروم . وقال الحسن أيضاً : بحر القلزم واليمن وبحر الشام . وقال ابن عباس وابن جبير : هو بحر في السماء وبحر في الأرض . وقال ابن عباس أيضاً هو مطر السماء سماه بحراً وبحر الأرض . والظاهر عندي أن قوله تعالى : { البحرين } يريد بهما نوعي الماء العذب . والأجاج : أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي ، والعبرة في هذا التأويل منيرة ، وأنشد منذر بن سعيد : [ الطويل ]
وممزوجة الأمواه لا العذب غالب . . . على الملح طيباً لا ولا الملح يعذب{[10816]}
أما قوله : { يلتقيان } فعلى التأولين الأولين معناه : هما معدان للالتقاء ، وحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ ، وعلى القول الثالث روي أنهما يلتقيان كل سنة مرة ، فمن ذهب إلى أنه بحر يجتمع في السماء فهو قول ضعيف وإنما يتوجه الالتقاء فيه . وفي القول الرابع بنزول المطر ، وفي القول الخامس بالأنهار في البحر وبالعيون قرب البحر .
خبر آخر عن { الرحمن } [ الرحمن : 1 ] قصد منه العبرة بخلق البحار والأنهار ، وذلك خلق عجيب دال على عظمة قدرة الله وعلمه وحكمته .
ومناسبة ذكره عقب ما قبله أنه لما ذُكر أنه سبحانه رب المشرقين ورب المغربين وكانت الأبحر والأنهار في جهات الأرض ناسب الانتقال إلى الاعتبار بخلقهما والامتنان بما أودعهما من منافع الناس .
والمرج : له معان كثيرة ، وأولاها في هذا الكلام إنه الإِرسال من قولهم : « مرج الدابة » إذا أرسلها ترعى في المَرج ، وهو الأرض الواسعة ذات الكلأ الذي لا مالك له ، أي : تركها تذهب حيث تشاء .
والمعنى : أرسل البحرين لا يحبس ماءهما عن الجري حاجز . وهذا تهيئة لقوله بعد { يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان } .
والمراد : أنه خَلَقهما ومرَجَهما ، لأنه ما مَرَجَهما إلا عقب أن خلقهما .
ويلتقيان : يتصلان بحيث يصب أحدهما في الآخر .
والبحر : الماء الغامر جزءاً عظيماً من الأرض يطلق على المالح والعذب .
والمراد تثنية نوعي البحر وهما البحر الملح والبحر العذب . كما في قوله تعالى : { وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج } [ فاطر : 12 ] والتعريف تعريف العهد الجنسي .
فالمقصود ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات وبحر العجم المسمّى اليوم بالخليج الفارسي . والتقاؤهما انصباب ماء الفُرات في الخليج الفارسي . في شاطىء البَصرة ، والبلادُ التي على الشاطىء العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البَحْريْن لذلك .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"مَرَجَ البَحْرَيْن يَلْتَقِيانِ "يقول تعالى ذكره: مرج ربّ المشرقين وربّ المغربين البحرين يلتقيان، يعني بقوله: "مَرَجَ": أرسل وخلى، من قولهم: مرج فلان دابته: إذا خلاها وتركها...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{مرج البحرين يلتقيان} قيل: جمع بينهما وخلط. وقيل: أحدهما العذب، والآخر المالح وقيل: {يلتقيان} أي يتقابلان.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
مرج البحرين: خلط طرفيهما عند التقائهما من غير أن يختلط جملتهما. "لا يبغيان " أي لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يقلبه إلى مثل حاله في الملوحة والعذوبة. والبرزخ الحاجز بين الشيئين، ومنه البرزخ الحاجز بين الدنيا والآخرة. وقال قتادة: البرزخ الحاجز أن يبغي الملح على العذب أو العذب على الملح.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مَرَجَ البحرين} أرسل البحر الملح والبحر العذب متجاورين متلاقيين، لا فصل بين الماءين في مرأى العين.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{يلتقيان} فعلى التأولين الأولين معناه: هما معدان للالتقاء، وحقهما أن يلتقيا لولا البرزخ...والظاهر عندي أن قوله تعالى: {البحرين} يريد بهما نوعي الماء العذب والأجاج: أي خلطهما في الأرض وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض قريب بعضهما من بعض ولا بغي...
نقول قوله تعالى: {مرج البحرين} أي أرسل بعضهما في بعض وهما عند الإرسال بحيث يلتقيان أو من شأنهما الاختلاط والالتقاء ولكن الله تعالى منعهما عما في طبعهما، وعلى هذا يلتقيان حال من البحرين، ويحتمل أن يقال: من محذوف تقديره تركهما فهما يلتقيان إلى الآن ولا يمتزجان وعلى الأول، فالفائدة إظهار القدرة في النفع فإنه إذا أرسل الماءين بعضهما على بعض وفي طبعهما بخلق الله وعادته السيلان والالتقاء ويمنعهما البرزخ الذي هو قدرة الله أو بقدرة الله، يكون أدل على القدرة مما إذا لم يكونا على حال يلتقيان... فقوله: {يلتقيان} أي من شأنهما أن يكون مكانهما واحدا، ثم إنهما بقيا في مكان متميزين فذلك برهان القدرة والاختيار...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مرج} أي أرسل الرحمن {البحرين} أي الملح والعذب فجعلهما مضطربين، من طبعهما الاضطراب، حال كونهما {يلتقيان} أي يتماسان على ظهر الأرض بلا فصل بينهما في رؤية العين وفي باطنها، فجعل الحلو آية دالة على مياه الجنة، والملح آية دالة على بعض شراب أهل النار لا يروي شاربه ولا يغنيه، بل يحرق بطنه ويعييه،...
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
وقد تعددت أقوال المفسرين في المقصود من البحرين...ومهما يكن من أمر فالقصد كما هو المتبادر هو لفت الأذهان إلى ما يشاهده الناس من اختلاط مياه البحار والأنهار ببعضهما دون أن يطغى بعضها على بعض. وفي الآيات دلالة على أنه كان يجري في البحار التي تقع عليها بلاد العرب مراكب عظيمة، وكان يستخرج منها اللؤلؤ والمرجان، وأن هذا وذاك كان مشاهدا أو معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومنتفعا به. وموضع حديث عن قدرة الله وعظمته