{ 37 - 41 } { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى *إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي * إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }
لما ذكر منته على عبده ورسوله ، موسى بن عمران ، في الدين ، والوحي ، والرسالة ، وإجابة سؤاله ، ذكر نعمته عليه ، وقت التربية ، والتنقلات في أطواره فقال : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى }
ولقد مننا عليك مرة أخرى . إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى . أن اقدفيه في التابوت فاقذفيه في اليم . فليلقه اليم بالساحل ، يأخذه عدو لي وعدو له . وألقيت عليك محبة مني ، ولتصنع على عيني . إذ تمشي أختك فتقول : هل أدلكم على من يكفله ? فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن . وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ، فلبثت سنين في أهل مدين . ثم جئت على قدر يا موسى . واصطنعتك لنفسي . . . .
إن موسى - عليه السلام - ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار . إنه ذاهب لخوض معركة الإيمان مع الطغيان . إنه ذاهب إلى خضم من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر ؛ ثم مع قومه بني إسرائيل وقد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم ، وأضعف استعدادهم للمهمة التي هم منتدبون لها بعد الخلاص . فربه يطلعه على أنه لن يذهب غفلا من التهيؤ والاستعداد . وأنه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد . وأنه صنع على عين الله منذ زمان ، ودرب على المشاق وهو طفل رضيع ، ورافقته العناية وسهرت عليه وهو صغير ضعيف . وكان تحت سلطان فرعون وفي متناوله وهو مجرد من كل عدة ومن كل قوة فلم تمتد إليه يد فرعون ، لأن يد القدرة كانت تسنده ، وعين القدرة كانت ترعاه . في كل خطاه . فلا عليه اليوم من فرعون ، وقد بلغ أشده . وربه معه . قد اصطنعه لنفسه ، واستخلصه واصطفاه .
( ولقد مننا عليك مرة أخرى ) . . فالمنة قديمة ممتدة مطردة ، سائرة في طريقها معك منذ زمان . فلا انقطاع لها إذن بعد التكليف الآن .
هذه{[19265]} إجابة من الله لرسوله موسى ، عليه السلام ، فيما سأل من ربه عز وجل ، وتذكير{[19266]} له بنعمه السالفة عليه ، فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه ، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه ؛ لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان . فاتخذت له تابوتا ، فكانت{[19267]} ترضعه ثم تضعه فيه ، وترسله في البحر - وهو النيل - وتمسكه إلى منزلها بحبل فذهبت مرة لتربطه{[19268]} فانفلت منها وذهب به البحر ، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] فذهب به البحر إلى دار فرعون { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [ القصص : 8 ] أي قدرًا مقدورًا{[19269]} من الله ، حيث كانوا هم يقتلون الغلمان{[19270]} من بني إسرائيل ، حذرًا من وجود موسى ، فحكم الله - وله السلطان العظيم ، والقدرة التامة - ألا يربى إلا على فراش فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه ، مع محبته وزوجته له ؛ ولهذا قال : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [ أي : عند عدوك ، جعلته يحبك . قال سلمة بن كُهَيْل : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } ]{[19271]} قال : حببتك إلى عبادي .
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله .
وقال معمر بن المثنى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } بحيث أرى .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف ، غذاؤه عندهم غذاء الملك ، فتلك الصنعة .
وإتيان هذا السؤال منة من الله عز وجل ، فقرن إليها عز وجل قديم منته عنده على جهة التوقيف عليها ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته . وكان من قصة موسى فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه على يدي غلام من بني إسرائيل فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ، ثم إنه رأى مع أهل مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع ونحو هذا ، فعزم على أن يقتل الولدان سنة ويستحييهم سنة ، فولد هارون في سنة الاستحياء فكانت أمه آمنة ، ثم ولد موسى في العام الرابع سنة القتل فخافت أمه عليه من الذبح فبقيت مهتمة فأوحى الله إليها ، قيل بملك جاء لها وأخبرها وأمرها ، قال بعض من روى هذا : لم تكن نبية لأنا نجد في الشرع ورواياته أن الملائكة قد كلمت من لم يكن نبياً ، وقال بعضهم بل كانت أم موسى نبية بهذا الوحي ، وقالت فرقة بل كان هذا الوحي رؤيا رأتها في النوم ، وقالت فرقة بل هو وحي إلهام وتسديد كوحي الله إلى النحل وغير ذلك فأهمها الله إلى أن اتخذت تابوتاً فقذقت فيه موسى راقداً في فراش ، ثم قذفته في يم النيل ، وكان فرعون جالساً في موضع يشرف على النيل إذ رأى تابوتاً فأمر به ، فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه أبناً فأباح لها ذلك وروي أن { التابوت } جاء في الماء إلى المشرعة التي كان جواري امرأة فرعون يستقين فيها الماء فأخذن التابوت وجلبنه إليها فأخرجته وأعلمت فرعون وطلبته منه ثم إنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به يعرض للمراضع ، فكلما عرضت عليه امرأة أباها . وكانت أمه حين ذهب عنها في النيل بقيت مغمومة فؤادها فارغ إلا من همه فقالت لأخته اطلبي أمره في المدينة عسى أن يقع لنا منه خبر ، فبينما الأخت تطوف إذ بصرت به وفهمت أمره قالت لهم أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فتعلقوا بها وقالوا أنت تعرفين هذا الصبي ، فقالت لا ، غير أني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب الى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها ، وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها ، فسرت آسية امرأة فرعون وقالت لها كوني معي في القصر ، فقالت لها ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي ، قالت نعم فأحسنت إلى ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنوا إسرائيل بهذا الرضاع ، والسبب من الملكة ، وأقام موسى حتى كمل رضاعه فأرسلت إليها آسية أن جيئي بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل ثياب فسرت به ودخلت على فرعون ليراه ويهبه فرآه وأعجبه وقربه فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون وجذبها{[1]} ، فاستشاط فرعون وقال هذا عدو لي وأمر بذبحه ، فناشدته فيه امرأته وقالت إنه لا يعقل ، فقال فرعون بل يعقل فاتفقا على تجربته بالجمر والياقوت حسبما ذكرناه آنفاً في حل العقدة ، فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه فشب عندها فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع ، وكان فتى جلداً فاضلاً كاملاً فاعتزت به بنوا إسرائيل بظاهر ذلك الرضاع وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم ، فكانت بصيرته في حمايتهم وكيدة ، وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل .
ثم إن قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي نزلت وذكرها في موضعها مستوعب ، فخرج موسى عليه السلام من مصر حتى وصل إلى مدين ، فكان من أمره مع شعيب ما هو في موضعه مستوعب يختص منه بهذا الموضع أنه تزوج ابنته الصغرى على رعية الغنم عشر سنين ، ثم إنه اعتزم الرحيل بزوجته إلى بلاد مصر فجاء في طريقه فضل في ليلة مظلمة فرأى النار حسبما تقدم ذكره ، فعدد الله تعالى على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة من لطف الله تعالى به في كل فصل وتخليصه له من قصة إلى أخرى ، وهذه الفتون التي فتنه بها أي اختبره وخلصه حتى صلح للنبوءة وسلم لها .
جملة { ولقد مَنَنَّا عليْكَ } معطوفة على جملة { قد أوتيتَ سُؤْلك } [ طه : 36 ] لأنّ جملة { قد أوتيت سؤلك } تتضمن منّة عليه ، فعطف عليها تذكير بمنّة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنّه لما كان بمحل العناية من ربّه من أوّل أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعدَ سؤاله أحْرى ، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة ، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه . فهذا طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيّداً في سائر أحواله المستقبلة ، كقوله تعالى لمحمد : { ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى } [ الضحى : 5 8 ] .
وتأكيد الخبر بلام القسم و ( قد ) لتحقيق الخبر ، لأنّ موسى عليه السلام قد علم ذلك ، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه ، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى : { قد أوتيت سؤلك } [ طه : 36 ] .
والمَرّة : فَعلة من المرور ، غلبت على معنى الفَعلة الواحدة من عمل معيّن يعرف بالإضافة أو بدلالة المقام . وقد تقدمت عند قوله تعالى : { وهم بدأوكم أول مرة } في سورة براءة ( 13 ) . وانتصاب { مَرَّةً } هنا على المفعولية المطلقة لفعل { مَنَنَّا } ، أي مرّة من المنّ . ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنّة .