في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{وَلَقَدۡ مَنَنَّا عَلَيۡكَ مَرَّةً أُخۡرَىٰٓ} (37)

ولقد مننا عليك مرة أخرى . إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى . أن اقدفيه في التابوت فاقذفيه في اليم . فليلقه اليم بالساحل ، يأخذه عدو لي وعدو له . وألقيت عليك محبة مني ، ولتصنع على عيني . إذ تمشي أختك فتقول : هل أدلكم على من يكفله ? فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن . وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا ، فلبثت سنين في أهل مدين . ثم جئت على قدر يا موسى . واصطنعتك لنفسي . . . .

إن موسى - عليه السلام - ذاهب لمواجهة أقوى ملك في الأرض وأطغى جبار . إنه ذاهب لخوض معركة الإيمان مع الطغيان . إنه ذاهب إلى خضم من الأحداث والمشكلات مع فرعون أول الأمر ؛ ثم مع قومه بني إسرائيل وقد أذلهم الاستعباد الطويل وأفسد فطرتهم ، وأضعف استعدادهم للمهمة التي هم منتدبون لها بعد الخلاص . فربه يطلعه على أنه لن يذهب غفلا من التهيؤ والاستعداد . وأنه لم يرسل إلا بعد التهيئة والإعداد . وأنه صنع على عين الله منذ زمان ، ودرب على المشاق وهو طفل رضيع ، ورافقته العناية وسهرت عليه وهو صغير ضعيف . وكان تحت سلطان فرعون وفي متناوله وهو مجرد من كل عدة ومن كل قوة فلم تمتد إليه يد فرعون ، لأن يد القدرة كانت تسنده ، وعين القدرة كانت ترعاه . في كل خطاه . فلا عليه اليوم من فرعون ، وقد بلغ أشده . وربه معه . قد اصطنعه لنفسه ، واستخلصه واصطفاه .

( ولقد مننا عليك مرة أخرى ) . . فالمنة قديمة ممتدة مطردة ، سائرة في طريقها معك منذ زمان . فلا انقطاع لها إذن بعد التكليف الآن .