فلما تكامل قوم موسى خارجين منه وقوم فرعون داخلين فيه أمره الله تعالى أن يلتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم وتركوا ما متعوا به من الحياة الدنيا وأورثه الله بني إسرائيل الذين كانوا مستعبدين لهم ولهذا قال : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا }
ثم قال تعالى : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ } وهي البساتين { وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ } والمراد بها الأنهار والآبار ، { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } وهي المساكن الكريمة الأنيقة والأماكن الحسنة .
وقال مجاهد ، وسعيد بن جبير : { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } المنابر .
وقال ابن لَهِيعة ، عن وهب{[26212]} بن عبد الله المعافري ، عن عبد الله بن عمرو قال : نيل مصر سيد الأنهار ، سخر الله له كل نهر بين المشرق والمغرب ، وذلَّلَهُ له ، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده ، فأمدته الأنهار بمائها ، وفجر الله له الأرض عيونًا ، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله ، أوحى الله إلى كل ماء أن يرجع إلى عنصره .
وقال في قوله تعالى : { كَمْ تَرَكُوا{[26213]} مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ } قال : ، كانت الجنان بحافتي هذا النيل من أوله إلى آخره في الشقين جميعًا ، ما بين أسوان إلى رشيد ، وكان له تسعة{[26214]} خلج : خليج الإسكندرية ، وخليج دمياط ، وخليج سردوس ، وخليج منف ، وخليج الفيوم ، وخليج المنهى ، متصلة لا ينقطع منها شيء عن شيء ، وزروع ما بين الجبلين كله من أول مصر إلى آخر ما يبلغه الماء ، وكانت جميع أرض مصر تروى من ستة عشر ذراعًا ، لما قدروا ودبروا من قناطرها وجسورها وخلجها .
استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة ، غروراً أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه ، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله : { ولقد فتنَّا قبلهم قوم فرعون } [ الدخان : 17 ] من التنظير الإجمالي .
وضمير { تركوا } عائد إلى ما عاد إليه ضمير { إنهم جند مغرقون } [ الدخان : 24 ] .
والترك حقيقته : إلقاء شيء في مَكانٍ منتقلَ عنه إبقاء اختيارياً ، ويطلق مجازاً على مفارقة المكان والشيءِ الذي في مكان غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال : ترك الميت مالاً ، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل .
وفعل { تركوا } مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا ، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر ، وانضمام البحر عليهم قد تم ، ففي الكلام إيجازُ حذففِ جمل كثيرة يدل عليها { كم تركوا } .
و { كم } اسم لعدد كثير مُبهم يفسِّر نوعَه مميزٌ بعد { كم } مجرورٌ ب { من } مذكورةٍ أو محذوفة . وحكم { كم } كالأسماء تكون على حسب العوامل . وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبرَ مبتدأ ولا خبرَ ( كان ) ولا ( إنّ ) وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها . وانتصب { كم } هنا على المفعول به ل { تركوا } أي تركوا كثيراً من جنات . و { مِن } مميزة لمبهم العدد في { كم } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{كم تركوا} من بعدهم يعني فرعون وقومه.
{وعيون} يعني الأنهار الجارية...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: كم ترك فرعون وقومه من القبط بعد مهلكهم وتغريق الله إياهم من بساتين وأشجار، وهي الجنات، وعيون، يعني: ومنابع ما كان ينفجر في جنانهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كم تركوا} الآية، قبله محذوف تقديره: فغرقوا وقطع الله دابرهم، ثم أخذ يعجب من كثرة ما تركوا من الأمور الرفيعة الغبيطة في الدنيا، و: {كم} خبر للتكثير.
الجنات والعيون: روي أنها كانت متصلة ضفتي النيل جميعاً من رشيد إلى أسوان. وأما العيون فيحتمل أنه أراد الخلجان الخارجة من النيل فشبهها بالعيون، ويحتمل أنه كانت ثم عيون، ونضبت كما يعتري في كثير من بقاع الأرض...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أرشد السياق ولا بد إلى تقدير: فأسرى موسى بعباد الله كما أمره الله فتبعهم آل فرعون كما أخبر سبحانه، ففتح الله البحر بباهر قدرته وأمسك ماءه كالجدران بقاهر عظمته وتركه بعد طلوعهم منه على حالته فتبعهم عباد الشيطان بما فاض عليهم من شقاوته فأغرقهم الله بعزته لم يفلت منهم أحد، عبر سبحانه عن هذا كله بقوله على طريق الاستئناف: {كم تركوا} أي الذي سبق الحكم بإغراقهم فغرقوا.
{من جنات} أي بساتين هي في غاية ما يكون من طيب الأرض وكثرة الأشجار وزكاء الثمار والنبات وحسنها الذي يسر المهموم و يستر الهموم، ودل على كرم الأرض بقوله:"وعيون".
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يمضي من هذا المشهد المضمر إلى التعقيب عليه؛ تعقيباً يشي بهوان فرعون الطاغية المتعالي وملئه الممالئ له على الظلم والطغيان. هوانه وهوانهم على الله، وعلى هذا الوجود الذي كان يشمخ فيه بأنفه، فيطأطئ له الملأ المفتونون به؛ وهو أضأل وأزهد من أن يحس به الوجود، وهو يسلب النعمة فلا يمنعها من الزوال، ولا يرثي له أحد على سوء المآل.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف ابتدائي مسوق للعبرة بعواقب الظالمين المغرورين بما هم فيه من النعمة والقوة، غروراً أنساهم مراقبة الله فيما يرضيه، فموقع هذا الاستئناف موقع النتيجة من الدليل أو البيان من الإجمال لما في قوله: {ولقد فتنَّا قبلهم قوم فرعون} [الدخان: 17] من التنظير الإجمالي.
وضمير {تركوا} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {إنهم جند مغرقون} [الدخان: 24].
والترك حقيقته: إلقاء شيء في مَكانٍ منتقلَ عنه إبقاء اختيارياً، ويطلق مجازاً على مفارقة المكان والشيءِ الذي في مكان غلبة دون اختيار وهو مجاز مشهور يقال: ترك الميت مالاً، ومنه سمي مخلف الميت تركة وهو هنا من هذا القبيل.
وفعل {تركوا} مؤذن بأنهم أغرقوا وأعدموا، وذلك مقتضى أن ما أمر الله به موسى من الإسراء ببني إسرائيل وما معه من اتباع فرعون إياهم وانفلاق البحر وإزلاف بني إسرائيل واقتحام فرعون بجنوده البحر، وانضمام البحر عليهم قد تم، ففي الكلام إيجازُ حذفِ جمل كثيرة يدل عليها {كم تركوا}.
و {كم} اسم لعدد كثير مُبهم يفسِّر نوعَه مميزٌ بعد {كم} مجرورٌ ب {من} مذكورةٍ أو محذوفة. وحكم {كم} كالأسماء تكون على حسب العوامل؛ وإذ كان لها صدر الكلام لأنها في الأصل استفهام فلا تكون خبرَ مبتدأ ولا خبرَ (كان) ولا (إنّ)؛ وإذا كانت معمولة للأفعال وجب تقديمها على عاملها.
وانتصب {كم} هنا على المفعول به ل {تركوا} أي تركوا كثيراً من جنات، و {مِن} مميزة لمبهم العدد في {كم}.