الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{كَمۡ تَرَكُواْ مِن جَنَّـٰتٖ وَعُيُونٖ} (25)

وقوله تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ } ( كم ) للتكثير ، أي : كَمْ تَرَكَ هؤلاءِ المُغْتَرُّونَ من كثرة الجنَّات والعيونِ ، فَرُوِيَ أَنَّ الجناتِ كَانَتْ مُتَّصِلَةً ضِفَّتَيِ النيلِ جميعاً من رشيد إلى أُسْوَانَ ، وأَمَّا العيونُ فيحتملُ أَنَّه أراد الخُلْجَانَ ، فشبهها بالعيون ، ويحتمل أَنَّها كانت ونَضِبَتْ ، ذكر الطُّرْطُوشِيُّ في «سِرَاجِ الملوك » له ، قال : قال أبو عبد اللَّه بن حَمْدُونَ : كنت مع المُتَوَكِّلِ لما خرج إلى دمشقَ ، فركِبَ يوماً إلى رُصَافَةِ هشام بن عبد الملك ، فنظر إلى قُصُورِها ، ثم خرج ، فنظر إلى دَيْرٍ هناك قديمٍ حَسَنِ البناءِ بين مزارعَ وأشجارٍ ، فدخله ، فبينما هو يطوفُ به إذ بَصُرَ برُقْعَةٍ قد أُلْصِقَتْ في صدره ؛ فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوبٌ هذه الأبياتُ :

أَيَا مَنْزِلاً بالدَّيْرِ أَصْبَحَ خَالِياً *** تَلاَعَبُ فِيهِ شَمْأَلٌ وَدَبُورُ

كَأَنَّكَ لَمْ يَسْكُنْكَ بِيضٌ أَوانِسٌ *** وَلَمْ تَتَبَخْتَرْ في قِبَابِكَ حُورُ

وَأَبْنَاءُ أَمْلاَكٍ غَوَاشِمُ سَادَةٌ *** صَغِيرُهُمُو عِنْدَ الأَنَامِ كَبِيرُ

إذَا لَبِسُوا أَدْرَاعَهُمْ فَعَوَابِس *** وَإنْ لَبِسُوا تِيجَانَهُمْ فَبُدُورُ

على أَنَّهُمْ يَوْمَ اللِّقَاءِ ضَرَاغِمٌ *** وَأَنَّهُمُو يَوْمَ النَّوَالِ بُحُورُ

لَيَالِي هِشَامٌ بالرُّصَافَةِ قَاطِنٌ *** وَفِيكَ ابنه يَا دَيْرُ وَهْوَ أَمِيرُ

إذِ الْعَيْشُ غَضٌّ وَالخِلاَفَةُ لَذَّةٌ *** وَأَنْتَ طَرُوبٌ وَالزَّمَانُ غَرِيرُ

وَرَوْضُكَ مُرْتَادٌ وَنَوْرُكَ مُزْهِرٌ *** وَعَيْشُ بَنِي مَرْوَانَ فِيكَ نَضِيرُ

بلى فَسَقَاكَ الْغَيْثُ صَوْبَ سَحَائِب *** عَلَيْكَ لَهَا بَعْدَ الرَّوَاحِ بُكُورُ

تَذَكَّرْتُ قَوْمِي فِيكُمَا فَبَكَيْتُهُمْ *** بِشَجْوٍ وَمِثْلِي بِالْبُكَاءِ جَدِيرُ

فَعَزَّيْتُ نَفْسِي وَهْيَ نَفْسٌ إذَا جرى *** لَهَا ذِكْرُ قَوْمِي أَنَّةٌ وَزَفِيرُ

لَعَلَّ زَمَاناً جَارَ يَوْماً عَلَيْهِمُ *** لَهُمْ بِالَّذِي تَهْوَى النُّفُوسُ يَدُورُ

فَيَفْرَحَ مَحْزُونٌ وَيَنْعَمَ بَائِسٌ *** وَيُطْلَقَ مِنْ ضِيقِ الوَثَاقِ أَسِيرُ

رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ يَتْبَعُهُ غَدٌ *** وَإنَّ صُرُوفَ الدَّائِرَاتِ تَدُورُ

فلما قراها المتوكِّل ، ارتاع ، ثم دعا صاحب الدَّيْرِ ، فسأله عَمَّن كتبها ، فقال : لا عِلْمَ لي به ، وانصرف ، انتهى . وفي هذا وشبهه عِبْرَة لأولِي البصائر المستَيْقِظِينَ ، اللهم ، لا تجعلْنَا مِمَّنْ اغتر بزَخَارِفِ هذه الدارِ .

أَلاَ إنَّما الدُّنْيَا كَأَحْلاَمِ نَائِم *** وَمَا خَيْرُ عَيْشٍ لاَ يَكُونُ بِدَائِمِ