واستجاب موسى لنصح هذا الرجل { فَخَرَجَ مِنْهَا } أى : من المدينة ، حالة كونه { خَآئِفاً } من الظالمين { يَتَرَقَّبُ } التعرض له منهم ، ويعد نفسه للتخفى عن أنظارهم .
وجعل يتضرع إلى ربه قائلا : { رَبِّ نَجِّنِي } بقدرتك وفضلك { مِنَ القوم الظالمين } بأن تخلصنى من كيدهم ، وتحول بينهم وبينى ، فأنا ما قصدت بما فعلت ، إلا دفع ظلمهم وبغيهم .
وإلى هنا تكون السورة الكريمة ، قد قصت علينا هذا الجانب من حياة موسى ، بعد أن بلغ أشده واستوى ، وبعد أن دفع بهمته الوثابة ظلم الظالمين ، وخرج من مدينتهم خائفا يترقب ، ملتمسا من خالقه - عز وجل - النجاة من مكرهم .
( فخرج منها خائفا يترقب . قال : رب نجني من القوم الظالمين ) . .
ومرة أخرى نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية . التوفز والتلفت . ونلمح معها ، التوجه المباشر بالطلب إلى الله ، والتطلع إلى حمايته ورعايته ، والالتجاء إلى حماه في المخافة ، وترقب الأمن عنده والنجاة : ( رب نجني من القوم الظالمين ) . .
لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره ، خرج من مصر وحده ، ولم يألف ذلك قلبه ، بل كان في رفاهية ونعمة ورئاسة ، { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } أي : يتلفَّت { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : من فرعون وملئه . فذكروا أن الله ، سبحانه وتعالى ، بعث له ملكًا على فرس ، فأرشده إلى الطريق ، فالله أعلم .
فخرج موسى عليه السلام وأفلت القوم فلم يجده أحد منهم وخرج بحكم فزعه ومبادرته إلى الطريق المؤدية إلى مدين وهي مدينة قوم شعيب عليه السلام ، وكان موسى لا يعرف تلك الطريق ، ولم يصحب أحداً ، فركب مجهلتها واثقاً بالله تعالى ومتوكلاً عليه ، قال السدي ومقاتل : فروي أن الله تعالى بعث إليه جبريل ، وقيل ملكاً غيره ، فسدده إلى طريق مدين وأعطاه عصا يقال هي كانت عصاه ، وروي أن عصاه إنما أخذها لرعي الغنم في مدين وهو أصح وأكثر ، وبين مدين ومصر مسيرة ثمانية أيام قاله ابن جبير والناس ، وكان ملك مدين لغيرفرعون ، وحكى الطبري عن ابن جريج أو ابن أبي نجيح ، شك الطبري{[9128]} أنه قال : إن الذي { أراد أن يبطش } هو الإسرائيلي فنهاه موسى عن ذلك بعد أن قال له { إنك لغوي مبين } [ القصص : 18 ] ففزع الإسرائيلي عند ذلك من موسى وخاطبه بالفضح وكان موسى من الندامة والتوبة في حد لا يتصور معه أن يريد البطش بهذا الفرعوني الآخر ، وروى ابن جريج أن اسم الرجل الساعي { من أقصى المدينة } شمعون ، وقال ابن إسحاق : شمعان .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فخرج} موسى، عليه السلام، {منها} من القرية {خائفا} أن يقتل {يترقب} يعني: ينتظر الطلب، وهو هارب منهم.
{قال رب نجني من القوم الظالمين} يعني: المشركين، أهل مصر، فاستجاب الله عز وجل له...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فخرج موسى من مدينة فرعون خائفا من قتله النفس أن يقتل به "يترقب "يقول: ينتظر الطلب أن يدركه فيأخذه...
وقوله: "قالَ رَبّ نَجّنِي مِنَ القَوْمِ الظّالِمِينَ" يقول تعالى ذكره: قال موسى وهو شاخص عن مدينة فرعون خائفا: ربّ نجني من هؤلاء القوم الكافرين، الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك.
أما قوله: {فخرج منها خائفا يترقب} أي خائفا على نفسه من آل فرعون ينتظر هل يلحقه طلب فيؤخذ، ثم التجأ إلى الله تعالى لعلمه بأنه لا ملجأ سواه فقال: {رب نجني من القوم الظالمين} وهذا يدل على أن قتله لذلك القبطي لم يكن ذنبا، وإلا لكان هو الظالم لهم وما كانوا ظالمين له بسبب طلبهم إياه ليقتلوه قصاصا.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فخرج} أي موسى عليه الصلاة والسلام مبادراً {منها} أي المدينة لما علم من صدق قوله مما حفّه من القرائن، حال كونه {خائفاً} على نفسه من آل فرعون {يترقب} أي يكثر الالتفات بإدارة رقبته في الجهات ينظر هل يتبعه أحد؛ ثم وصل به على طريق الاستئناف قوله: {قال} أي موسى عليه الصلاة والسلام: {رب} أي أيها المحسن إليّ بالإيجاد والتربية وغير ذلك من وجوه البر {نجني} أي خلصني، مشتق من النجوة، وهو المكان العالي الذي لا يصل إليه كل أحد {من القوم الظالمين} أي الذين يضعون الأمور في غير مواضعها فيقتلون من لا يستحق القتل مع قوتهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فخرج منها خائفا يترقب. قال: رب نجني من القوم الظالمين).. ومرة أخرى نلمح السمة الواضحة في الشخصية الانفعالية. التوفز والتلفت. ونلمح معها، التوجه المباشر بالطلب إلى الله، والتطلع إلى حمايته ورعايته، والالتجاء إلى حماه في المخافة، وترقب الأمن عنده والنجاة: (رب نجني من القوم الظالمين).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومحل العبرة من قصة موسى مع القبطي وخروجه من المدينة من قوله {ولما بلغ أشده} [القصص: 14] إلى هنا هو أن الله يصطفي من يشاء من عباده، وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته، وأنه إذا تعلقت إرادته بشيء هيأ له أسبابه بقدرته فأبرزه على أتقن تدبير، وأن الناظر البصير في آثار ذلك التدبير يقتبس منها دلالة على صدق الرسول في دعوته كما أشار إليه قوله تعالى {فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون} [يونس: 16]. وإن أوضح تلك المظاهر هو مظهر استقامة السيرة ومحبة الحق، وأن دليل عناية الله بمن اصطفاه لذلك هو نصره على أعدائه ونجاته مما له من المكائد. وفي ذلك كله مثل للمشركين لو نظروا في حال محمد صلى الله عليه وسلم في ذاته وفي حالهم معه. ثم {إن} في قوله تعالى {إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك} الآية إيماء إلى أن رسوله صلى الله عليه وسلم سيخرج من مكة وأن الله منجيه من ظالميه.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وقد نلاحظ في هذا الدعاء وما تقدمه، وما يأتي بعده، أنّ موسى كان مشدوداً بإيمانه وبكل كيانه إلى الله، فهو يتوجه إليه في كل موقفٍ، وفي كل لحظةٍ من لحظات الشدّة، ليتحدث معه، وليثير بين يديه آلامه وهمومه وتطلعاته في الحياة، وعلاقته بالأحداث من حوله، ما يوحي بأنه كان على درجةٍ كبيرةٍ من الروحانية النابضة بالإيمان، بحيث لا يواجه مشكلةً إلاَّ ويكون الله هو المقصد فيها قبل كل الناس. وهذه هي ميزة الأنبياء في حياتهم قبل النبوة، في ملكاتهم الروحية التي تجعلهم في الموقع المميز الذي يؤهلهم لاصطفاء الله لهم لرسالاته. وهكذا لاحظنا أن موسى كان في خوفه الغريزي ووحدته يستمد القوّة من الله في شعوره الإيمانيّ بحضوره معه، بكل قوته الإِلهية، ولهذا فإنه يطلب منه أن ينجيه من القوم الظالمين، الذين يملكون القوّة الغاشمة الكبيرة، بقدرته المطلقة التي لا حدَّ لها. ولم يكن لموسى كما يبدو أيّ هدف معين يقصده، وقد تكون هذه السفرة هي أوّل سفر له في حياته، لأن هدفه هو أن يهرب من قوم فرعون.