وهنا يحكى القرآن الكريم أن الخضر ، قد أكد ما سبق أن قاله لموسى ، وبين له شروطه إذا أراد مصاحبته ، فقال : { قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } . أى : قال الخضر لموسى على سبيل التأكيد والتوثيق : يا موسى إن رافقتنى وصاحبتنى ، ورأيت منى أفعالا لا تعجبك ، لأن ظاهرها يتنافى مع الحق . فلا تعترض عليها ، ولا تناقشنى فيها ، بل اتركنى وشأنى ، حتى أبين لك فى الوقت المناسب السبب فى قيامى بتلك الأفعال ، وحتى أكون أنا الذى أفسره لك .
قالوا : " وهذا من الخضر تأديب وإرشاد لما يقتضى دوام الصحبة ، فلو صبر موسى ودأب لرأى العجب " .
أي : ابتداءً { حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } أي : حتى أبدأك أنا به قبل أن تسألني .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، عن هارون بن عنترة{[18324]} ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : سأل موسى ربه ، عز وجل ، فقال{[18325]} : رب ، أي عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال فأي عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال أي رب ، أي عبادك أعلم ؟ قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه ، عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى . قال : أي رب هل في أرضك{[18326]} أحد أعلم مني ؟ قال : نعم . قال : فمن هو ؟ قال الخضر . قال : فأين{[18327]} أطلبه ؟ قال على الساحل عند الصخرة ، التي ينفلت{[18328]} عندها الحوت . قال : فخرج موسى يطلبه ، حتى كان ما ذكر الله ، وانتهى موسى إليه عند الصخرة ، فسلم{[18329]} كل واحد منهما على صاحبه . فقال له موسى : إني أريد أن تصحبني{[18330]} قال إنك لن تطيق{[18331]} صحبتي . قال : بلى . قال : فإن صحبتني { فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا } قال : فسار به في البحر{[18332]} حتى انتهى إلى مجمع البحور{[18333]} ، وليس في الأرض{[18334]} مكان أكثر ماء منه . قال : وبعث الله الخطاف ، فجعل يستقي منه بمنقاره ، فقال لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء ؟ قال : ما أقل ما رزأ ! قال : يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقَدْر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء . وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه ، أو تكلم به ، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر . وذكر تمام الحديث في خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإصلاح الجدار ، وتفسيره له ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } .
يقول تبارك وتعالى : قال العالم لموسى : فإن اتبعتني الاَن فلا تسألني عن شيء أعمله مما تستنكره ، فإني قد أعلمتك أني أعمل العمل على الغيب الذي لا تحيط به علما حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا يقول : حتى أحدث أنا لك مما ترى من الأفعال التي أفعلها التي تستنكرها أذكرها لك وأبين لك شأنها ، وأبتدئك الخبر عنها ، كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس فَلا تَسأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا يعني عن شيء أصنعه حتى أبين لك شأنه .
فقوى الخضر وصاته وأمره بالإمساك عن السؤال والإكنان لما يراه حتى يبتدئه الخضر لشرح ما يجب شرحه ، وقرأ نافع فلا «تسألَنّي » بفتح اللام ، وتشديد النون وإثبات الياء وقرأ ابن عامر كذلك إلا أنه حذف الباء فقال «تسألَنّ » ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «تسألني » بسكون اللام وثبوت الياء ، وقرأ الجمهور «خبْراً » بسكون الباء ، وقرأ الأعرج «خبُراً » بضمها .
التاء في قوله : { فإن اتبعتني } تفريع على وعد موسى إياه بأنه يجده صابراً ، ففرع على ذلك نهيه عن السؤال عن شيء مما يشاهده من تصرفاته حتى يبينه له من تلقاء نفسه .
وأكد النهي بحرف التوكيد تحقيقاً لحصول أكمل أحوال المتعلم مع المعلم ، لأن السؤال قد يصادف وقت اشتغال المسؤول بإكمال عمله فتضيق له نفسه ، فربما كان الجواب عنه بدون شَرَهِ نفس ، وربما خالطه بعض القلق فيكون الجواب غير شاففٍ ، فأراد الخضر أن يتولى هو بيان أعماله في الإبان الذي يراه مناسباً ليكون البيان أبسط والإقبال أبهج فيزيد الاتصال بين القرينين .
والذكر ، هنا : ذكر اللسان . وتقدم عند قوله تعالى : { يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي } في سورة البقرة ( 40 ) . أعني بيان العلل والتوجيهات وكشف الغوامض .
وإحداث الذكر : إنشاؤه وإبرازه ، كقول ذي الرمة :
وقرأ نافع { فَلَا تَسْأَلَنِّي } بالهمز وبفتح اللام وتشديد النون على أنه مضارع سأل المهموز مقترناً بنون التوكيد الخفيفة المدغمة في نون الوقاية وبإثبات ياء المتكلم .
وقرأ ابن عامر مثله ، لكن بحذف ياء المتكلم . وقرأ البقية { تسألني } بالهمز وسكون اللام وتخفيف النون . وأثبتوا ياء المتكلم .