ثم أخبر - سبحانه - عن حال المشركين قبل أن يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ . لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين . لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين . فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .
و " إن " فى قوله { وَإِن كَانُواْ . . . } هى المخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير محذوف .
والقائلون هم كفار مكة ، والفاء فى قوله { فَكَفَرُواْ بِهِ } وهى الفصيحة الدالة على محذوف مقدر .
والمعنى إن حال هؤلاء الكافرين وشأنهم ، أنهم كانوا يقولون قبل مجئ الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم { لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين } أى : لو أن عندنا كتابا من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا عباد الله المخلصين أى : لكنا بسبب وجود هذا الكتاب من عباد الله الذين يخلصون له العبادة والطاعة .
فجاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب المبين كما تمنوا وطلبوا ، فكانت النتيجة أن كفروا به ، فسوف يعلمون سوء عاقبة هذا الكفر ، { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
يقول تعالى ذكره : فلما جاءهم الذكر من عند الله كفروا به ، وذلك كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءهم به من عند الله من التنزيل والكتاب ، يقول الله : فسوف يعلمون إذا وردوا عليّ ماذا لهم من العذاب بكفرهم بذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : لَوْ أنّ عِنْدَنا ذِكْرا مِنَ الأوّلِينَ لَكُنّا عبادَ اللّهِ المُخْلَصِينَ قال : لما جاء المشركين من أهل مكة ذكر الأوّلين وعلم الاَخرين كفروا بالكتاب فسَوْفَ يَعْلَمُونَ يقول : قد جاءكم محمد بذلك ، فكفروا بالقرآن وبما جاء به محمد .
والفاء في قوله : { فكفروا به } للتعقيب على فعل { ليقُولُونَ } ، أي استمرّ قولهم حتى كان آخره أن جاءهم الكتاب فكفروا به ، أو للفصيحة ، والتقدير : فكان عندهم ذكر فكفروا به ، فالضمير عائد إلى الذكر وهو القرآن قال تعالى : { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز } [ فصلت : 41 ] . وهذا معنى قوله تعالى : { وأقسموا باللَّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونُنّ أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً } [ فاطر : 42 ] .
( وبهذا كان للوعيد بقوله : { فَسَوْفَ يعلَمُون } موقعُه المصادفُ المِجَزَّ من الكلام ، وهوْلُه بما ضمنه من الإِبهام . و« سوف » أخت السين في إفادة مطلق الاستقبال .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلما جاءهم الذكر من عند الله كفروا به، وذلك كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاءهم به من عند الله من التنزيل والكتاب، يقول الله: فسوف يعلمون إذا وردوا عليّ ماذا لهم من العذاب بكفرهم بذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
علم عيان ومشاهدة كما عرّفهم علم خبر بالحجة والآيات...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
فيه اختصار تقديره: فلما أتاهم ذلك الكتاب كفروا به.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
تعجيب منهم، فقد جاءهم نبي وأنزل عليهم كتاب فيه بيان ما يحتاجون إليه فكفروا وما وفوا بما قالوا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا الذكر -الذي أتاهم مع كونه أعظم ذكر أتى مصدقاً لكتب الأولين، وكان الرسول الآتي به أعظم الرسل، فكان لذلك هو عين ما عقدوا عليه مع زيادة الشرف- سبباً لكفرهم قال: {فكفروا به} أي فتسبب عما عاهدوا عليه أنهم كفروا بذلك الذكر مع زيادته في الشرف على ما طلبوا بالإعجاز وغيره، فتسبب عن ذلك تهديدهم ممن أخلفوا وعده، ونقضوا مع التأكيد عهده، فقال: {فسوف يعلمون} أي بوعيد ليس هو من جنس كلامهم، بل هو مما لا خلف فيه بوجه...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
الفاءُ في قولِه تعالى: {فَكَفَرُواْ بِهِ} فصيحةٌ كما في قولِه تعالى: {أَنِ اضرب بعَصَاكَ البحر فانفلق} [سورة الشعراء، الآية63] أي فجاءَهُم ذكرٌ وأيُّ ذكرٍ، سيِّدُ الأذكارِ وكتابٌ مُهيمنٌ على سائرِ الكُتبِ والأسفارِ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الفاء في قوله: {فكفروا به} للتعقيب على فعل {ليقُولُونَ}، أي استمرّ قولهم حتى كان آخره أن جاءهم الكتاب فكفروا به، وبهذا كان للوعيد بقوله: {فَسَوْفَ
يعلَمُون} موقعُه المصادفُ المِجَزَّ من الكلام، وهوْلُه بما ضمنه من الإِبهام.
و« سوف» أخت السين في إفادة مطلق الاستقبال.
وقوله: {فَكَفَرُواْ بِهِ} يعني: لما جاءهم الرسول الذي يطلبونه كفروا به. إذن: المسألة مسألةَ لَجَج وعناد وكبرياء في قبول الحق والانقياد له {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} حَرْفا (السين) و (سوف) يدلان على الاستقبال، لكن سوف أبعد في الزمن من السين.
فقوله تعالى {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} احتياط زمني من القرآن الكريم، فالفعل {يَعْلَمُونَ} مضارع للحال وللاستقبال، أما سوف فهي للمستقبل البعيد عن مستقبل السين؛ ذلك لأن المعاصرين لنزول القرآن منهم مَنْ سيموت قبل أنْ يرى عاقبة المشركين، وقبل أنْ يشهد ظهور الإسلام وانتصاراته.
فإنْ كان قد مات قبل أنْ يعلمَ فسوف يعلم في الآخرة ويرى العاقبة، هذا لغير المؤمن، أما المؤمن فليس في حاجة إلى هذا العلم؛ لأنه صدق الله فيما أخبر...