وقوله - تعالى - : { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى } تذكير منه - سبحانه - لموسى ، بجانب من النعم التى أنعم بها عليه ، حتى يزداد ثباتا وثقة بوعد الله - تعالى - ولذا صدرت الجملة بالقسم .
أى : وبعزتى وجلالى لقد مننا عليك ، وأحسنا إليك { مَرَّةً أخرى } قبل ذلك ، ومنحناك من رعايتنا قبل أن تلتمس منا أن نشرح لك صدرك ، وأن نيسر لك أمرك . .
هذه{[19265]} إجابة من الله لرسوله موسى ، عليه السلام ، فيما سأل من ربه عز وجل ، وتذكير{[19266]} له بنعمه السالفة عليه ، فيما كان ألهم أمه حين كانت ترضعه ، وتحذر عليه من فرعون وملئه أن يقتلوه ؛ لأنه كان قد ولد في السنة التي يقتلون فيها الغلمان . فاتخذت له تابوتا ، فكانت{[19267]} ترضعه ثم تضعه فيه ، وترسله في البحر - وهو النيل - وتمسكه إلى منزلها بحبل فذهبت مرة لتربطه{[19268]} فانفلت منها وذهب به البحر ، فحصل لها من الغم والهم ما ذكره الله عنها في قوله : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا } [ القصص : 10 ] فذهب به البحر إلى دار فرعون { فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا } [ القصص : 8 ] أي قدرًا مقدورًا{[19269]} من الله ، حيث كانوا هم يقتلون الغلمان{[19270]} من بني إسرائيل ، حذرًا من وجود موسى ، فحكم الله - وله السلطان العظيم ، والقدرة التامة - ألا يربى إلا على فراش فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه ، مع محبته وزوجته له ؛ ولهذا قال : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } [ أي : عند عدوك ، جعلته يحبك . قال سلمة بن كُهَيْل : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } ]{[19271]} قال : حببتك إلى عبادي .
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } قال أبو عمران الجوني : تربى بعين الله .
وقال معمر بن المثنى : { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } بحيث أرى .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف ، غذاؤه عندهم غذاء الملك ، فتلك الصنعة .
وإتيان هذا السؤال منة من الله عز وجل ، فقرن إليها عز وجل قديم منته عنده على جهة التوقيف عليها ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته . وكان من قصة موسى فيما روي أن فرعون ذكر له أن خراب ملكه على يدي غلام من بني إسرائيل فأمر بقتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ، ثم إنه رأى مع أهل مملكته أن فناء بني إسرائيل يعود على القبط بالضرر إذ هم كانوا عملة الأرض والصناع ونحو هذا ، فعزم على أن يقتل الولدان سنة ويستحييهم سنة ، فولد هارون في سنة الاستحياء فكانت أمه آمنة ، ثم ولد موسى في العام الرابع سنة القتل فخافت أمه عليه من الذبح فبقيت مهتمة فأوحى الله إليها ، قيل بملك جاء لها وأخبرها وأمرها ، قال بعض من روى هذا : لم تكن نبية لأنا نجد في الشرع ورواياته أن الملائكة قد كلمت من لم يكن نبياً ، وقال بعضهم بل كانت أم موسى نبية بهذا الوحي ، وقالت فرقة بل كان هذا الوحي رؤيا رأتها في النوم ، وقالت فرقة بل هو وحي إلهام وتسديد كوحي الله إلى النحل وغير ذلك فأهمها الله إلى أن اتخذت تابوتاً فقذقت فيه موسى راقداً في فراش ، ثم قذفته في يم النيل ، وكان فرعون جالساً في موضع يشرف على النيل إذ رأى تابوتاً فأمر به ، فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه أبناً فأباح لها ذلك وروي أن { التابوت } جاء في الماء إلى المشرعة التي كان جواري امرأة فرعون يستقين فيها الماء فأخذن التابوت وجلبنه إليها فأخرجته وأعلمت فرعون وطلبته منه ثم إنها عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به يعرض للمراضع ، فكلما عرضت عليه امرأة أباها . وكانت أمه حين ذهب عنها في النيل بقيت مغمومة فؤادها فارغ إلا من همه فقالت لأخته اطلبي أمره في المدينة عسى أن يقع لنا منه خبر ، فبينما الأخت تطوف إذ بصرت به وفهمت أمره قالت لهم أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فتعلقوا بها وقالوا أنت تعرفين هذا الصبي ، فقالت لا ، غير أني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب الى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها ، وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها ، فسرت آسية امرأة فرعون وقالت لها كوني معي في القصر ، فقالت لها ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي ، قالت نعم فأحسنت إلى ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنوا إسرائيل بهذا الرضاع ، والسبب من الملكة ، وأقام موسى حتى كمل رضاعه فأرسلت إليها آسية أن جيئي بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل ثياب فسرت به ودخلت على فرعون ليراه ويهبه فرآه وأعجبه وقربه فأخذ موسى عليه السلام بلحية فرعون وجذبها{[1]} ، فاستشاط فرعون وقال هذا عدو لي وأمر بذبحه ، فناشدته فيه امرأته وقالت إنه لا يعقل ، فقال فرعون بل يعقل فاتفقا على تجربته بالجمر والياقوت حسبما ذكرناه آنفاً في حل العقدة ، فنجاه الله من فرعون ورجع إلى أمه فشب عندها فاعتز به بنو إسرائيل إلى أن ترعرع ، وكان فتى جلداً فاضلاً كاملاً فاعتزت به بنوا إسرائيل بظاهر ذلك الرضاع وكان يحميهم ويكون ضلعه معهم وهو يعلم من نفسه أنه منهم ومن صميمهم ، فكانت بصيرته في حمايتهم وكيدة ، وكان يعرف ذلك أعيان بني إسرائيل .
ثم إن قصة القبطي المتقاتل مع الإسرائيلي نزلت وذكرها في موضعها مستوعب ، فخرج موسى عليه السلام من مصر حتى وصل إلى مدين ، فكان من أمره مع شعيب ما هو في موضعه مستوعب يختص منه بهذا الموضع أنه تزوج ابنته الصغرى على رعية الغنم عشر سنين ، ثم إنه اعتزم الرحيل بزوجته إلى بلاد مصر فجاء في طريقه فضل في ليلة مظلمة فرأى النار حسبما تقدم ذكره ، فعدد الله تعالى على موسى في هذه الآية ما تضمنته هذه القصة من لطف الله تعالى به في كل فصل وتخليصه له من قصة إلى أخرى ، وهذه الفتون التي فتنه بها أي اختبره وخلصه حتى صلح للنبوءة وسلم لها .
جملة { ولقد مَنَنَّا عليْكَ } معطوفة على جملة { قد أوتيتَ سُؤْلك } [ طه : 36 ] لأنّ جملة { قد أوتيت سؤلك } تتضمن منّة عليه ، فعطف عليها تذكير بمنّة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنّه لما كان بمحل العناية من ربّه من أوّل أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعدَ سؤاله أحْرى ، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة ، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه . فهذا طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيّداً في سائر أحواله المستقبلة ، كقوله تعالى لمحمد : { ولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى } [ الضحى : 5 8 ] .
وتأكيد الخبر بلام القسم و ( قد ) لتحقيق الخبر ، لأنّ موسى عليه السلام قد علم ذلك ، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه ، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالى : { قد أوتيت سؤلك } [ طه : 36 ] .
والمَرّة : فَعلة من المرور ، غلبت على معنى الفَعلة الواحدة من عمل معيّن يعرف بالإضافة أو بدلالة المقام . وقد تقدمت عند قوله تعالى : { وهم بدأوكم أول مرة } في سورة براءة ( 13 ) . وانتصاب { مَرَّةً } هنا على المفعولية المطلقة لفعل { مَنَنَّا } ، أي مرّة من المنّ . ووصفها بأخرى هنا باعتبار أنها غير هذه المنّة .