وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد . وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم ، وقد منحهم الله هذا التيسير :
( لمن شاء منكم أن يستقيم ) . .
أن يستقيم على هدى الله ، في الطريق إليه ، بعد هذا البيان ، الذي يكشف كل شبهة ، وينفي كل ريبة ، ويسقط كل عذر . ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم . فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه . فقد كان أمامه أن يستقيم .
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد . وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ . وما ينحرف عن طريق الله - بعد ذلك - إلا من يريد أن ينحرف . في غير عذر ولا مبرر !
وأبدل من { للعالمين } قوله : { لمن شاء منكم أن يستقيم } بدل بعض من كل ، وأعيد مع البدل حرف الجر العامل مثله في المبدل منه لتأكيد العامل كقوله تعالى : { ومن النخل من طلعها قنوان } [ الأنعام : 99 ] وقوله : { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم } وتقدم في سورة الأعراف ( 75 ) . و الخطاب في قوله : { منكم } للذين خوطبوا بقوله : { فأين تذهبون } [ التكوير : 26 ] وإذا كان القرآن ذكراً لهم وهم من جملة العالمين كان ذكر : { لمن شاء أن يستقيم } من بقية العالمين أيضاً بحكم قياس المساواة ، ففي الكلام كناية عن ذلك .
وفائدة هذا الإِبدال التنبيه على أن الذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاؤوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم ، وهو ثناء عليهم .
وفي مفهوم الصلة تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ما حال بينهم وبين التذكر به إلا أنهم لم يشاؤوا أن يستقيموا ، بل رضوا لأنفسهم بالاعوجاج ، أي سوء العمل والاعتقاد ، ليعلم السامعون أن دوام أولئك على الضلال ليس لقصور القرآن عن هديهم بل لأنهم أبوا أن يهتدوا به ، إما للمكابرة فقد كانوا يقولون : { قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب } [ فصلت : 5 ] وإما للإِعراض عن تلقيه : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] .
والاستقامة مستعارة لصلاح العمل الباطني ، وهو الاعتقاد ، والظاهري وهو الأفعال والأقوال تشبيهاً للعمل بخط مستقيم تشبيهَ معقول بمحسوس . ثم إن الذين لم يشاءوا أن يستقيموا هم الكافرون بالقرآن وهم المسوق لهم الكلام ، ويلحق بهم على مقادير متفاوتة كل من فرط في الاهتداء بشيء من القرآن من المسلمين فإنه ما شاء أن يستقيم لما فَرَط منه في أحوال أو أزمان أو أمكنة .
وفي هذه الآية إشارة بينة على أن من الخطأ أن يوزن حال الدين الإِسلامي بميزان أحوال بعض المسلمين أو معظمهم كما يفعله بعض أهل الأنظار القاصرة من الغربيين وغيرهم إذ يجعلون وجهة نظرهم التأمل في حالة الأمم الإِسلامية ويَسْتَخلصون من استقرائها أحكاماً كلية يجعلونها قضايا لفلسفتهم في كنه الديانة الإِسلامية .
وهذه الآية صريحة في إثبات المشيئة للإِنسان العاقل فيما يأتي ويدع ، وأنه لا عذر له إذا قال : هذا أمر قُدِّر ، وهذا مكتوب عند الله ، فإن تلك كلمات يضعونها في غير محالها ، وبذلك يبطل قول الجبرية ، ويثبت للعبد كسب أو قدرة على اختلاف التعبير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... كأن معنى الكلام: إن هو إلا ذكر لمن شاء منكم أن يستقيم على سبيل الحقّ فيتبعه، ويؤمن به...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أن هذا القرآن ذكر لمن شاء أن يستقيم من العالمين؛ فهو في نفسه ذكر وآيات وهدى، ولكن ينتفع بهذا الذكر من شاء الاستقامة، ويهتدي به من طلب الهداية. قال الله تعالى: {هدى للمتقين} [البقرة: 2] وهو في نفسه هدى، ولكن يهتدي بهداه المتقون. ومن ليس بمتق، فهو عمى عليه ورجس... {لمن شاء منكم أن يستقيم} فهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يحمل على تحقيق المشيئة، ويكون تأويله أن من أراد الاستقامة على أمر الله تعالى أو على الحق، فهذا الذكر، وهو القرآن يقيمه على الحق وعلى الأمر، ويهديه إلى ذلك.
الثاني: أن هذا على تحقيق الفعل، فيكون معناه: من استقام منكم على الحق والأمر، فهو ذكر له. والأصل أن المشيئة وصف فعل كل مختار. وإذا كان هكذا صارت المشيئة مقترنة به فإذا فعل فقد شاء، فكان في إثبات الفعل إثبات المشيئة. لذلك استقام حمله على ما ذكرنا، وهو أن يجعل أحدهما كناية عن الآخر...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِمَن شَآءَ مِنكُمْ} بدل من العالمين وإنما أبدلوا منهم لأنّ الذين شاءوا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنه لم يوعظ به غيرهم وإن كانوا موعظين جميعاً...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: من أراد الهداية فعليه بهذا القرآن، فإنه منجاةٌ له وهداية، ولا هداية فيما سواه....
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لمن شاء منكم أن يستقيم).. أن يستقيم على هدى الله، في الطريق إليه، بعد هذا البيان، الذي يكشف كل شبهة، وينفي كل ريبة، ويسقط كل عذر. ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإذا كان القرآن ذكراً لهم وهم من جملة العالمين كان ذكر: {لمن شاء أن يستقيم} من بقية العالمين أيضاً بحكم قياس المساواة، ففي الكلام كناية عن ذلك. وفائدة هذا الإِبدال التنبيه على أن الذين تذكروا بالقرآن وهم المسلمون قد شاءوا الاستقامة لأنفسهم فنصحوا أنفسهم، وهو ثناء عليهم. وفي مفهوم الصلة تعريض بأن الذين لم يتذكروا بالقرآن ما حال بينهم وبين التذكر به إلا أنهم لم يشاؤوا أن يستقيموا، بل رضوا لأنفسهم بالاعوجاج، أي سوء العمل والاعتقاد، ليعلم السامعون أن دوام أولئك على الضلال ليس لقصور القرآن عن هديهم بل لأنهم أبوا أن يهتدوا به، إما للمكابرة فقد كانوا يقولون...
والاستقامة مستعارة لصلاح العمل الباطني، وهو الاعتقاد، والظاهري وهو الأفعال والأقوال تشبيهاً للعمل بخط مستقيم تشبيهَ معقول بمحسوس. ثم إن الذين لم يشاءوا أن يستقيموا هم الكافرون بالقرآن وهم المسوق لهم الكلام، ويلحق بهم على مقادير متفاوتة كل من فرط في الاهتداء بشيء من القرآن من المسلمين فإنه ما شاء أن يستقيم لما فَرَط منه في أحوال أو أزمان أو أمكنة. وفي هذه الآية إشارة بينة على أن من الخطأ أن يوزن حال الدين الإِسلامي بميزان أحوال بعض المسلمين أو معظمهم كما يفعله بعض أهل الأنظار القاصرة من الغربيين وغيرهم إذ يجعلون وجهة نظرهم التأمل في حالة الأمم الإِسلامية ويَسْتَخلصون من استقرائها أحكاماً كلية يجعلونها قضايا لفلسفتهم في كنه الديانة الإِسلامية. وهذه الآية صريحة في إثبات المشيئة للإِنسان العاقل فيما يأتي ويدع، وأنه لا عذر له إذا قال: هذا أمر قُدِّر، وهذا مكتوب عند الله، فإن تلك كلمات يضعونها في غير محالها، وبذلك يبطل قول الجبرية، ويثبت للعبد كسب أو قدرة على اختلاف التعبير...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(إنْ هو إلاّ ذكر للعالمين) قد ذكرت عمومية الفيض الإلهي في القرآن الكريم، فيما خصصت الآية التالية: (لمن شاء منكم أن يستقيم) عملية الاستفادة من هذا الفيض الجزيل وحددته بشرط الاستقامة. وهذه القاعدة جارية في جميع النعم والمواهب الإلهية في العالم، فإنّها عامّة التمكين، خاصّة الاستفادة، فمن لا يملك الإرادة والتصميم على ضوء الهدي القرآني لا يستحق فيض رحمة اللّه ونعمه. والآية الثّانية من سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين) تدخل في سياق هذا المعنى. وعلى أيّة حال، فالآية تؤكّد مرّة أخرى على حرية الإنسان في اختياره الطريق الذي يرضاه، سواء كان طريق حقّ، أمْ طريق باطل. ويفهم من «يستقيم»، أنّ طريق السعادة الحقّة، طريق مستقيم، وما دونه لا يكون كذلك، ولولا الإفراط والتفريط والوساوس الشيطانية وأغشية الضلال.. لسار الإنسان على هذه السبل المنجيَة، باستجابته لنداء الفطرة واتباعه الخط المستقيم، والخط المستقيم هو أقصر الطرق الموصلة للهدف المنشود...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.