. ( الذين هم في خوض يلعبون ) . .
وهذا الوصف ينطبق ابتداء على أولئك المشركين ومعتقداتهم المتهافتة ، وتصوراتهم المهلهلة ؛ وحياتهم القائمة على تلك المعتقدات وهذه التصورات ، التي وصفها القرآن وحكاها في مواضع كثيرة . وهي لعب لا جد فيه . لعب يخوضون فيه كما يخوض اللاعب في الماء ، غير قاصد إلى شاطئ أو هدف ، سوى الخوض واللعب !
ولكنه يصدق كذلك على كل من يعيش بتصور آخر غير التصور الإسلامي . . وهذه حقيقة لا يدركها الإنسان إلا حين يستعرض كل تصورات البشر المشهورة - سواء في معتقداتهم أو أساطيرهم أو فلسفاتهم - في ظل التصور الإسلامي للوجود الإنساني ثم للوجود كله . . إن سائر التصورات - حتى لكبار الفلاسفة الذين يعتز بهم تاريخ الفكر الإنساني تبدو محاولات أطفال يخبطون ويخوضون في سبيل الوصول إلى الحقيقة . تلك الحقيقة التي تعرض في التصور الإسلامي - وبخاصة في القرآن - عرضا هادئا ناصعا قويا بسيطا عميقا . يلتقي مع الفطرة التقاء مباشرا دون كد ولا جهد ولا تعقيد . لأنه يطالعها بالحقيقة الأصيلة العميقة فيها . ويفسر لها الوجود وعلاقتها به ، كما يفسر لها علاقة الوجود بخالقه تفسيرا يضاهي ما استقر فيها ويوافقه .
وطالما عجبت وأنا أطالع تصورات كبار الفلاسفة ؛ وألاحظ العناء القاتل الذي يزاولونه ، وهم يحاولون
تفسير هذا الوجود وارتباطاته ؛ كما يحاول الطفل الصغير حل معادلة رياضية هائلة . . وأمامي التصور القرآني واضحا ناصعا سهلا هينا ميسرا طبيعيا ، لا عوج فيه ولا لف ولا تعقيد ولا التواء . وهذا طبيعي ، فالتفسير القرآني للوجود هو تفسير صانع هذا الوجود لطبيعته وارتباطاته . . أما تصورات الفلاسفة فهي محاولات أجزاء صغيرة من هذا الوجود لتفسير الوجود كله . والعاقبة معروفة لمثل هذه المحاولات البائسة !
إنه عبث . وخلط . وخوض . . حين يقاس إلى الصورة المكتملة الناضجة ، المطابقة ، التي يعرضها القرآن على الناس ، فيدعها بعضهم إلى تلك المحاولات المتخبطة الناقصة ، المستحيلة الاكتمال والنضوج !
وإن الأمور لتظل مضطربة في حس الإنسان وتصوره ، متأثرة بالتصورات المنحرفة ، وبالمحاولات البشرية الناقصة . . ثم يسمع آيات من القرآن في الموضوع الذي يساوره . فإذا النور الهادئ . والميزان الثابت . وإذا هو يجد كل شيء في موضعه ، وكل أمر في مكانه ، وكل حقيقة هادئة مستقرة لا تضطرب ولا تمور . ويحس بعدها أن نفسه استراحت ، وأن باله هدأ ، وأن عقله اطمأن إلى الحق الواضح ، وقد زال الغبش والقلق واستقرت الأمور .
كذلك يبدو أن الناس في خوض يلعبون من ناحية اهتماماتهم في الحياة . حين تقاس بالاهتمامات التي يثيرها الإسلام في النفس ، ويعلق بها القلب ، ويشغله بتدبرها وتحقيقها . وتبدو تفاهة تلك الاهتمامات وضآلتها ، والمسلم ينظر إلى اشتغال أهلها بها ، وانغماسهم فيها ، وتعظيمهم لها ، وحديثهم عنها كأنها أمور كونية عظمى ! وهو ينظر إليهم كما ينظر إلى الأطفال المشغولين بعرائس الحلوى وبالدمى الميتة ، يحسبونها شخوصا ؛ ويقضون أوقاتهم في مناغاتها واللعب معها وبها ! ! !
إن الإسلام يرفع من اهتمامات البشر بقدر ما يرفع من تصورهم للوجود الإنساني وللوجود كله ؛ وبقدر ما يكشف لهم عن علة وجودهم وحقيقته ومصيره ؛ وبقدر ما يجيب إجابة صادقة واضحة عن الأسئلة التي تساور كل نفس : من أين جئت ? لماذا جئت ? إلى أين أذهب ?
وإجابة الإسلام عن هذه الأسئلة تحدد التصور الحق للوجود الإنساني وللوجود كله . فإن الإنسان ليس بدعا من الخلائق كلها . فهو واحد منها . جاء من حيث جاءت . وشاركها علة وجودها . ويذهب إلى حيث تقتضي حكمة خالق الوجود كله أن يذهب . فالإجابة على تلك الأسئلة تشمل كذلك تفسيرا كاملا للوجود كله ، وارتباطاته وارتباطات الإنسان به . وارتباط الجميع بخالق الجميع .
وهذا التفسير ينعكس على الاهتمامات الإنسانية في الحياة ؛ ويرفعها إلى مستواه . ومن ثم تبدو اهتمامات الآخرين صغيرة هزيلة في حس المسلم المشغول بتحقيق وظيفة وجوده الكبرى في هذا الكون ، عن تلك الصغائر والتفاهات التي يخوض فيها اللاعبون !
إن حياة المسلم حياة كبيرة - لأنها منوطة بوظيفة ضخمة ، ذات ارتباط بهذا الوجود الكبير ، وذات أثر في حياة هذا الوجود الكبير . وهي أعز وأنفس من أن يقضيها في عبث ولهو وخوض ولعب . وكثير من اهتمامات الناس في الأرض يبدو عبثا ولهوا وخوضا ولعبا حين يقاس إلى اهتمامات المسلم الناشئة من تصوره لتلك الوظيفة الضخمة المرتبطة بحقيقة الوجود .
الخوض : الاندفاع في الكلام الباطل والكذب . والمراد خوضهم في تكذيبهم بالقرآن مثل ما حكى الله عنهم : { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] وهو المراد بقوله تعالى : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } [ الأنعام : 68 ] .
و { في } للظرفية المجازية وهي الملابسة الشديدة كملابسة الظرف للمظروف ، أي الذين تمكن منهم الخوض حتى كأنه أحاط بهم .
و { يلعبون } حاليّة . واللعب : الاستهزاء ، قال تعالى : { ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أباللَّه وآياته ورسوله كنتم تستهزئون } [ التوبة : 65 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.